القائمة الرئيسية

الصفحات

وَلْيُ الْجَمَاهِير: مَسِيرَةٌ مِن الْمَجْد نَحْوُ الْخُلُودِ


لم يكن *الشهيد الولي* رحمه الله مجرد بشر من لحم ودم، بل كان تجسيداً حياً لفكرة تبحث عن أرض تزهر عليها. في رحلته القصيرة المديدة، اختزل عمراً بأكمله في سنوات قليلة، ثلاث سنوات فقط.. صنع فيها ملحمة شعب تدرسها الأمم، وميلاداً جديداً لشيء لم نكن نعرفه اسمه الكرامة.. اسمه الوطن.
*الولي*؛ لم تكن ساعته تقيس الوقت، بل كانت تصنعه. كل لحظة عاشها كانت بمثابة قرن في سجل التاريخ. كان يعامل الزمن كشريك في معركة الوجود أو العدم.. وفي فلسفته الثورية، لم يكن "الريعان" سوى مفهوم مادي لا يعكس حقيقة العمر الحقيقي الذي يُقاس بما يتركه المرء من أثر.. هكذا عاش *الولي* وكأنه يعرف أن أيامه معدودة، فجعل من كل يوم فصلاً في سفر الخلود.
 
كان حضوره يملأ الفراغ كالضوء. لم يكن يحتاج إلى صخب أو حرس أو ضجيج ليعلن عن نفسه. تواضعه كان سلاحه السري، وقربه من الناس كان استراتيجيته في القيادة. لم يتعال على أحد، لأنه فهم مبكراً أن العظمة الحقيقية تكمن في القدرة على أن تكون إنساناً بين الناس. لم يكن يبحث عن الأضواء، لأن نوره كان ينبع من داخله.. من ذلك الإيمان الراسخ بأن القائد الحقيقي هو من يصنع القادة لا الأتباع.
كان يستمع إلى همس الناس البسيطين، الأطفال والشيوخ والقادة المؤزرين ويجالسهم بكل تواضع. لم يكن الشعب بالنسبة له جماهيرا تقاد، بل كان قيادة تحتاج فقط إلى من يذكرها بقوتها. 
 
في نظرته الثورية، كانت الإطارات مجرد خدم للشعب، لا أسيادا عليه. لقد قلب الهرم التقليدي للسلطة رأساً على عقب. لم يكن يؤمن بقداسة المناصب ولا بشرفها، بل بقداسة المسؤولية وجسامتها.. قيادته كانت مختلفة، لأنها لم تكن تستمد شرعيتها إلا من أنين ووجع شعب تكالبت عليه المحن..

حركته الدائمة لم تكن مجرد نشاط، بل كانت فلسفة عملية. آمن بأن الثبات موت مؤجل، وأن الحياة الحقيقية هي في الحركة الدائمة نحو الأفضل. كان يرى في كل مكان فرصة للعمل الثوري، وفي كل لحظة إمكانية للتحسيس والتحريض والتغيير. لم يكن ينتظر الظروف المثالية، لأنه كان يؤمن بأن الظروف تلك؛ حتما سيصنعها الميدان وستصنعها الإرادة.
 
ما كان يميز *الولي* بشكل فريد هو تلك القدرة الخارقة على تحويل الأفكار إلى حركة، والكلمات إلى فعل. لم يكن خطيباً مصقعاً فحسب، بل كان ملهماً يملك مفاتيح القلوب والعقول. كان يستخدم الكلمة كالسهم يصيب بها العقل قبل الأذن، والقلب قبل العين. في خطاباته، لم يكن يقدم وعوداً، بل كان يوقظ إرادات.. لم يكن يطلب من الناس التقدم، بل كان يذكرهم بأن يتبعوه..
 
عندما أسس ورفاقه الجبهة الشعبية، لم يكن يؤسس لكيان سياسي فحسب، بل كان يبني حلم أجيال بأكملها. كانت رؤيته تتجاوز الحاضر إلى المستقبل، تتخطى الجغرافيا إلى التاريخ. لم يكن يفكر في حدود الأرض، بل في آفاق الإنسان الصحراوي. الدولة الصحراوية بالنسبة له لم تكن مجرد قطعة أرض، بل كانت فكرة عبقرية تبحث عن مكان تتحقق فيه.
 
واصل مسيرته كالشمس التي تعرف أنها ستغيب، لكنها ستشرق كل يوم.. وعندما سقط شهيدا، لم يسقط جسده إلا لترتفع هامته إلى الأعلى.
 
اليوم، بعد 49 سنة من رحيله، لا يزال *الولي* حاضراً بيننا. نراه، ندركه في كل مقاتل يعشق التضحية، في كل شاب يرفض الظلم، وفي كل امرأة تدافع عن حقها، وفي كل طفل يحلم بمستقبل أفضل… إننا نراه في الوطن. لقد تحول من شخص إلى ظاهرة، ومن فرد إلى فكرة، ومن زعيم إلى أسطورة.
 
السر في خلود *الولي* يكمن في أنه لم يربط نفسه بزمان أو مكان. كان يؤمن أن الأفكار لا تموت، وأن من يموت من أجل فكرة يصبح جزءاً منها إلى الأبد. لقد صنع من حياته جسراً بين الماضي والمستقبل، بين الواقع والحلم، ليعبر عليه شعبنا نحو المنشود: الحرية والكرامة.
 
في النهاية، ربما تكون الإجابة على سؤال الخلود بسيطة: إن *الولي* لم يخلد لأن حياته كانت قصيرة، بل لأنه جعل كل لحظة فيها تستحق أن تخلد. لم يكن بحاجة إلى عمر طويل، لأنه عاش كل دقيقة من عمره كما لو كانت قرناً.. وهكذا؛ صار الرجل الذي استشهد في ريعان شبابه.. الإنسان الملهم الذي يعيش فينا..
 
في بساطته كان أكثر تعقيداً من كل النظريات. في تواضعه كان أكثر عظمة من كل المتكبرين. لقد فهم مبكراً أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون، بل يكتبه الصادقون. وأن السلطة الحقيقية ليست في التحكم بالآخرين، بل في تحريرهم من كل تحكم.
 
عندما نقرأ ملامح سيرته اليوم، لا نقرأ عن ماضٍ انتهى، بل عن مستقبل لم يبدأ بعد. كل جيل منا يكتشف فيه من جديد ما يحتاج إليه في زمانه: الشجاعة، الإيثار، الإصرار، الإقدام، التضحية والشهادة..
 
لقد ترك لنا *الولي* أهم درس: أننا كصحراويين لا نرضى أن نحيا من أجل خبز، بل بالمعنى الذي نعطيه لكياننا كشعب ذي كرامة، وأن قيمتنا لا تقاس بما نجمع، بل بما نبذل من تضحيات، ولا بما نملك بل بما نقدم، ولا بكثرة ما نتداول، بل بعمق الأثر الذي نتركه.
 
هكذا يعود إلينا السؤال الأزلي: كم من الرجال يموتون قبل أن يولدوا؟ وكم من الرجال يولدون بعد أن يموتوا؟ في حالة *الولي* الثائر، *ولي الجماهير*، يبدو أن الشهادة التي نالها كانت ولادة أخرى في وعي شعبنا وفي وجدانه، إنها ولادة لا تخضع لقوانين الزمن، بل لقوانين الروح.. هكذا بقي *الولي الشهيد* بيننا دائما وسيبقى إلى الأبد لأن رحلته كانت مسيرة عظيمة من المجد.. مسيرة مباركة نحو الخلود.
حمدي الحافظ.
08 يونيو 2025.

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...