الجزائر ليست بحاجة إلى من يذكّرها بواجبها تجاه فلسطين ، و ليست بحاجة إلى قمم شكلية لتثبت انتماءها لقضية ارتبطت بضميرها الوطني منذ لحظة استقلالها . حين قرر الرئيس عبد المجيد تبون عدم المشاركة شخصيًا في القمة العربية الطارئة المزمع عقدها في القاهرة يوم الرابع من مارس ، لم يكن ذلك انسحابا من المسؤولية ، و لا عزوفا عن الشأن العربي ، بل كان موقفا مدروسا ينطلق من فهم عميق لطبيعة المرحلة و وعي كامل بالسياق الحقيقي الذي دعا لهذه القمة . فالجزائر التي لم تتخلف يومًا عن نصرة فلسطين في كل المحافل الدولية ، و التي حملت القضية الفلسطينية إلى مجلس الأمن بصوت مرتفع حين خفتت أصوات كثيرة ، لا تحتاج إلى إثبات موقفها من خلال حضور شكلي في اجتماع تُدار فيه الملفات المصيرية بنفس العقلية التي أوصلت الأمة إلى حالها اليوم .
هذه القمة لم تُعقد حين كانت غزة تحترق تحت القصف ، و لم تُعلن عند سقوط آلاف الشهداء في مدارس الأونروا و مستشفيات الأطفال .
هذه القمة لم ترَ النور عندما كانت القدس تُهوّد قطعةً قطعة ، و لم تتحرك عندما كانت ساحات الأقصى تُغلق أمام المصلين . لكنها ظهرت فجأة بمجرد أن لوّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفكرة تهجير سكان غزة إلى مصر و الأردن ، و كأن الكارثة لم تكن موجودة إلا عندما مست بعض الأنظمة بشكل مباشر . حينها فقط دُعي العرب إلى الاجتماع ، ليس من أجل غزة الجريحة ، و لا من أجل الدفاع عن الأقصى المحتل ، بل من أجل حماية توازنات إقليمية هشة أصبحت مهددة بعدما انكشف جزء من المشروع الحقيقي الذي يُراد فرضه على المنطقة بأكملها .
الجزائر التي رفضت أن تكون جزءًا من هذا المشهد العبثي ، تدرك أن فلسطين ليست ملفًا يُدار خلف الأبواب المغلقة ، و لا ورقة تُتداول بين العواصم وفقًا للمصالح المتغيرة . فلسطين بالنسبة للجزائر قضية تحرر و كرامة و هوية ، و هي جوهر كل معركة خاضها الشعب الجزائري منذ أن أدرك أن الاستعمار واحد و إن اختلفت أعلامه . لهذا السبب لم تنتظر الجزائر إذنًا من أحد لتتحرك في مجلس الأمن دفاعًا عن غزة ، و لم تنتظر ضوءًا أخضر من عواصم النفوذ لتدعو إلى وقف العدوان و رفع الحصار . الجزائر وقفت وحدها في أروقة الأمم المتحدة حين كان البعض يبحث عن مبررات للصمت ، و حين كان آخرون يعقدون الصفقات السرية و العلنية مع الاحتلال .
الرئيس تبون بقراره مقاطعة القمة شخصيًا وضع إصبعه على الجرح العربي المفتوح . كيف تُعقد قمة باسم فلسطين بينما بعض الحاضرين فيها غارقون حتى آذانهم في التطبيع مع الاحتلال؟ كيف تُرفع شعارات الدفاع عن غزة ، بينما هناك من فتح أجواءه وموانئه لمجرمي الحرب الصهاينة؟ كيف تُناقش قضية القدس في قاعة تجلس فيها دول تعتبر القدس عاصمة موحدة لإسرائيل و تستضيف الوفود التجارية و الأمنية القادمة منها؟ هذا الانفصام بين الخطاب و الممارسة ، هو بالضبط ما رفضت الجزائر أن تكون جزءًا منه.
الجزائر التي فتحت أبوابها للفصائل الفلسطينية دون تمييز ، و التي رعت المصالحة الوطنية الفلسطينية في أصعب الظروف ، و التي حملت القضية الفلسطينية في قلب بياناتها السياسية منذ بيان أول نوفمبر ، ليست بحاجة إلى شهادات حسن سلوك من أحد . هي تعرف موقعها و تعرف واجبها ، و تعرف أنها كانت دائمًا حيث يجب أن تكون مع فلسطين المقاومة ، لا فلسطين الخاضعة ، مع فلسطين التي ترفض الاستسلام ، لا فلسطين التي تُباع و تُشترى في أسواق السياسة الدولية .
إن قرار تبون ليس موقفًا ظرفيًا بل هو امتداد لتاريخ طويل من الوفاء الجزائري لفلسطين . تاريخ صنعته دماء الشهداء الجزائريين الذين امتزجت دماؤهم بدماء المقاومين الفلسطينيين في كل مراحل النضال . تاريخ كتبه الدبلوماسيون الجزائريون الذين كانوا صوت فلسطين في الأمم المتحدة ، حين كان العالم يعتبر المقاومة الفلسطينية إرهابًا . تاريخ صاغته شوارع الجزائر التي لم تتوقف يومًا عن الهتاف لفلسطين في كل أزمة وكل عدوان و كل انتفاضة .
القضية اليوم ليست مجرد موقف من قمة أو خلاف على إجراءات تحضيرية ، بل هي أكبر وأعمق . القضية هي أن فلسطين أصبحت في نظر البعض عبئًا سياسيًا ، يُستخدم عند الحاجة و يُطوى في الأدراج حين تنتهي صلاحيته . و القضية أن بعض العواصم التي تدعي الدفاع عن فلسطين اليوم ، هي نفسها التي فتحت أبوابها للتطبيع أمس ، و تستضيف الوفود الإسرائيلية اليوم ، وتنسق أمنيًا واقتصاديًا مع الكيان المحتل غدًا . في هذا المشهد الملتبس فضّلت الجزائر أن تكون خارج الصورة ، لأن شرف الموقف أهم من حضور شكلي لا يغير شيئًا .
الجزائر التي تؤمن أن نصرة فلسطين لا تكون ببيانات باردة و لا بمؤتمرات شكلية ، بل بمواقف واضحة وتضحيات حقيقية ، تعرف أن الزمن سيكشف يومًا من كان مع فلسطين قولًا و فعلًا ، ومن كان يعتبر فلسطين مجرد و رقة تفاوضية تُستخدم عند الحاجة . لهذا ستبقى الجزائر حيث كانت دائمًا: مع فلسطين التي تقاوم ، مع فلسطين التي تحيا رغم الحصار ، مع فلسطين التي ترفض البيع و التهجير ، مع فلسطين التي تحفظ شرف الأمة كلها . و من أراد أن يبحث عن الجزائر في أي قمة أو اجتماع ، فليبحث عنها في الصف الأول للمقاومة و الشرف، لا في كراسي المتفرجين و المتواطئين .