عندما تنادي الأرض أبناءها، ينهض هذا الشعب الذي صلبته المآسي من تحت الركام ، وتكون الاستجابة سريعة وقوية، كما كان الحال في ولاية الداخلة التي عانت مؤخراً من كارثة طبيعية اجتاحت البيوت وأغرقت الطرقات. لم تكن الفيضانات مجرد حدث عابر، بل كانت نداءً ينبعث من قلب المعاناة، ليوقظ في نفوس الصحراويين تلك الروح التي لا تعرف الخنوع. تماماً كما استجاب الشعب الصحراوي لنداء الجبهة الشعبية عام 1973، حين علت صرخة الثورة ضد الاحتلال، هبّ اليوم ليواجه كوارث الطبيعة بيد واحدة وقلب موحد.
وكما تتحد قطرات المطر لتصبح سيولًا جارفة، اتحدت قلوب الصحراويين لتشكل سيلًا لا يُقهر في مواجهة الصعاب.
خلال تلك اللحظات العصيبة، لم تكن ولاية الداخلة وحدها؛ بل كان التضامن يتدفق من كل زاوية و نقطة تواجد الشعب الصحراوي ، كأنه نهر من العطاء لا ينضب. كلما احتاج الوطن إلى أبنائه، لبوا النداء بلا تردد، تماماً كما فعلوا في الماضي عندما ارتفع صوت الجبهة للمرة الأولى. كانت تلك اللحظة التاريخية شرارة أشعلت نيران الثورة، واليوم تتكرر الصورة، حيث يحترق الصبر ليولد عطاء لا ينتهي.
في المخيمات، وقفت الجماهير كالبنيان المرصوص، يداً بيد، نساءً ورجالًا، شبابًا وشيوخًا، في مشهد يروي قصة تلاحم لا ينكسر. مرددين ان : “وحدتنا مثل جذور شجرة الصنوبر، كلما تعمقت في الأرض، ازداد علوها وثباتها في وجه العواصف”.
نعود بالزمن إلى عام 1973، حيث لم يكن نداء الجبهة مجرد إعلان لحركة مقاومة مسلحة، بل كان نداءً للحرية، دعوة للوحدة والكرامة. في ذلك العام الحاسم، حمل أبناء الصحراء الغربية السلاح والعزيمة معاً، متحدين تحت راية الجبهة الشعبية ، مؤكدين أن الحرية تستحق التضحية.
وكما توحدت الصفوف في ذلك اليوم الخالد كما في مناسبات عدة، توحدت اليوم مرة أخرى،في مواجهة الكارثة. ما شهدته الداخلة لم يكن مجرد عملية إغاثة، بل كان استعراضاً لروح الصحراويين التي لا تتجزأ، تلك الروح التي لطالما صنعت التاريخ وصنعت الفارق.
عندما دعت ولاية الداخلة، لم يتردد جيش التحرير الشعبي الصحراوي لحظة في الاستجابة. برؤوس مرفوعة وأسلحة في أيديهم، كانوا أول من لبّى النداء، يحرسون أهلهم كحائط صد أمام أي خطر. لم يكن الجيش مجرد قوة عسكرية، بل كان الروح التي تنبض في عروق هذا الشعب، يجسد معنى التضحية والوفاء، و كان تعبيراً حيًّا عن تلاحم عميق، جسدته الأفعال لا الأقوال.
ولا يمكن إلا أن نثمن عاليًا الدور التاريخي والدعم الثابت الذي تقدمه الجزائر الشقيقة. كان حضور والي ولاية تندوف مع ممثلين عن الشعب الجزائري في قلب ولاية الداخلة، في لحظات الأمطار، رمزًا للتلاحم الأخوي. تلك الاستجابة السريعة ليست مجرد موقف سياسي، بل تعبير عميق عن روابط الدم والمصير المشترك اليوم في وجه كل الاعداء.
هذا التضامن الذي شهدته الداخلة هو جزء من إرث نضالي متجذر في التاريخ الصحراوي، تاريخ لم يبدأ في 1973، بل هو منذ عقود وخاصة منذ اللحظة التي قرر فيها هذا الشعب أن لا يقبل بالظلم او ان بعيش تحت الاحتلال و المهانة؛ وكما اشتعلت نيران الثورة في الماضي، ها هي اليوم تشتعل نار التضامن، لتؤكد للعالم أن الصحراويين، أينما حلوا، هم جسد واحد وقلب واحد، لا يعرف الانكسار.
في نهاية المطاف، تبقى الروح التي حركت الصحراويين في كل مراحل نضالهم، قبل ثورة 1973 وحتى مواجهة كوارث اليوم، هي نفسها الروح التي ستحملهم إلى مستقبل أفضل. إنها روح الوحدة والتضحية و الانسجام و التأخي …، التي تجعل من كل محنة درساً جديداً في العطاء، وتجعل من كل أزمة فرصة لإظهار القوة الحقيقية لشعب لا يعرف إلا الانتصار على كل تحدٍ يواجهه.
بقلم: لحسن بولسان