كان حلمه كبيرا في أن يصبح طبيبا، او جراحا، لما رآه من نقص في القطاع الصحي وحاجة المجتمع للرعاية الطبية الملحة، فالبعثات الأجنبية هي التي تقدم الخدمات الطبية، في ظل شحة وندرة الأجهزة والوسائل والإطارات الصحراوية المختصة.
أراد جبر النقص، فتملكه حلم دراسة الطب حتى يساهم بما سيكتسبه من معرفة في مساعدة المرضى وتقديم الخدمات اللازمة .
بدأ هذا الحلم ينموا حتى صار مشروعه المستقبلي، عزم على تحقيقه التحق بجذع العلوم في المرحلة الثانوية بعد أن اجتاز الشهادة الأهلية بامتياز . رسم برنامجا خاصا للدراسة فلا نوم أكثر من خمس ساعات في اليوم والليلة أخذت المطالعة حيزا كبيرا من وقته، جعل الكتاب خير جليس والدراسة والمذاكرة في سلم الاولويات ، منحها كل الوقت في طوابير الانتظار، المكتبة، فضاءات الجامعة، الغرفة، يشاركه النوم في السرير، حتى عرف بالجد والمثابرة، منذ اللحظة الأولى التي التحق فيها بالصف كان الجميع يحترمه بكلماته الصادقة .. نصحه المتواصل لزملائه، حرصه على الفائدة والمصلحة العامة وتمثله رسالة الطالب كسفير لقضية شعبه .. كذاك علاماته المشجعة التي تحصل عليها خلال سنوات الدراسة، بعثت روح التنافس والاجتهاد بين الطلبة .. مرت سنوات الدراسة كسرعة البرق، تذوق خلالها صعوبة الغربة بحلوها ومرها وقاسم الزملاء أصعب الأوقات وأجمل الساعات ودون الكثير من الذكريات .
تعرضت الوالدة لحالة مرضية دخلت إثرها المستشفى لمدة خمسة شهور، علم بالحادثة، فكان يفتح الكتاب و يقراء بلسانه لا بقلبه، يتيه فكره ويجول فيما تعانيه الام من مرض، اثر ذلك على تحصيله الدراسي، تراجعت النتائج، لاحظ المدرسون ذلك، رغم أن أمامه أصعب اختبار في اجتياز امتحان شهادة الباكالوريا . وبعد ثلاث سنوات من العمل الدؤوب والاجتهاد المتواصل انتهى الفصل الدراسي ولم ينته الحلم بعد ... جاءت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان، كاد حلمه الذي كرس لتحقيقه الغالي والنفيس ان يتبخر، سقط اسمه من قائمة الناجحين في الباكالوريا.
كم كانت صدمة الرسوب الذي لم يتوقعه احد، مؤلمة وقاسية، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن .
تأثر وتألم له جميع من عرفه، تلك الايام كانت أسوأ أيام حياته، لكن كعادته لم يستسلم للأمر الواقع وقرر أن يكمل الطريق الذي رسمه وان يعيد الكرة في السنة الموالية، حتى يحقق طموحه.
تراكمت الهموم في الصيف الحارق ولم ير من العطلة سوى التعب والجري بين إدارات ومسؤولي التعليم للحصول على حق إعادة السنة في نفس الاختصاص ... وبعد انقضاء عطلة الصيف جاءت رسالة إلى العائلة " ..ابنكم له منحة للدراسة في كوبا .." لم يتقبلوا الأمر في البداية وقالوا: لن تذهب للدراسة في بلد بعيد صدمتني الوالدة بكلمة مؤثرة أبكتني كثيرا وكنت اعتصر الألم كلما تذكرتها :"هذا أللاهي تفوت فكوبا ما بقى قاع من عمري"، اصطدم الحلم بالواقع حاول إقناع العائلة بالأمر وأنه سيبقى على اتصال لان السفر للدراسة كان بالنسبة له فرصة العمر، التي لا يمكن أن تضيع، وتحت إصراره المتواصل وافقت العائلة أخيرا وتجدد الحلم القديم في أن يكون طبيبا.
ارتب أغراضي، احضر ملابسي واقتني متطلبات السفر وأودع الأهل والأصدقاء، وكانوا جميعا يقولون أن من يذهب الى هناك، يقضي عقدا او عقدين من الزمن، ولا يعود حتى يكمل دراسته.
في الصباح الباكر، سلمته الوالدة وثائقه الشخصية، اختلط فرح السفر لتحقيق الحلم بدموع الوداع المنهمرة من أعين الجميع، كانت الوجهة الى المطار ... وبدأت رحلة الحلم تسطر من جديد، أقلتنا الطائرة إلى كوبا حيث يصنع الحلم الكبير كانت المسافة طويلة، وفرصة للنوم العميق، الذي استعدت فيه شريط ذكرياتي، في كل مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة وغربة الثانوية والأنشطة الثقافية والمناسبات الوطنية التي كنا نخلدها للتعريف بقضية شعبنا، ودورنا كشباب تجاه نشر القضية ...
استيقظت على التنبيه الخاص بالركاب لربط احزمة السلامة اثناء هبوط الطائرة في مطار هافانا الدولي، استقبلتنا كوبا بلد الجمال والثورة والمقاومة والصمود.
ركبت الحافلة المتجهة الى الجزيرة التي تحتضن الطلبة الصحراويين، لمحت من بين الركاب شخص ذو ملامح عربية، أحسست بألفة تجاهه سلمت عليه ورد باللغة العربية، جلست بجانبه، مضينا حوالي نصف ساعة دون أن نتحدث كسرت الصمت: من أي البلاد أنت ؟ قال : من مصر ... مرحبا بإخواننا من آم الدنيا، أرض الكنانة .
وأنت ؟. من الصحراء الغربية. أي صحراء …ـ سكت قليلا ـ أتقصد الصحراء الغربية عندنا في مصر لا … ..الصحراء الغربية في العراق لا.. ليست مجرد صحراء بل ارض الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة بالصحراء الغربية وهي من أكثر مناطق العالم تعرضا للمحاولات الاستعمارية بسبب وفرة وتنوع خيراتها وموقعها الاستراتيجي، وتقبع حتى اليوم تحت أبشع احتلال عرفه التاريخ، الاستعمار المغربي، مقاطعا: تقصد الصحراء المغربية ؟ لا لا لم تكن يوما مغربية ولن تكون بإذن الله، كيف أنا لا افهم تفاصيل القضية جيدا لكن اسمع كثيرا في الإعلام عن خلافات الجزائر والمغرب حول مشكل الصحراء .. وأنا حقيقة لا أحب الخلافات بين الدول العربية والإسلامية وخاصة المتجاورة فيما بينها، لا يا أخي الصحراء الغربية هي قصة كفاح طويلة ... هي قضية شعب يعيش الحرمان من أرضه مشتت الأوصال بسبب الاحتلال المغربي الذي لم يرحم هذه الأرض ولا أهلها منذ إحتلها .. شعب تجاهلته كل الأنظمة العربية ونسيه إعلامها وأنا منهك من طول السفر وجدت في نفسي قوة للتعريف بقضية شعبي العادلة، لأنني كنت شغوفا بالمطالعة وتتبع اخبار العالم، والبحث عن كل ما يكتب عن قضيتي، واعرف جيدا الطريقة الوحشية التي اغتصب بها المغرب ارضي وشرد شعبي واستنزف خيراتي على مرأى ومسمع من الجميع، وان الدول العربية والإسلامية خذلت هذا الشعب وفي مقدمتهم النظام المغربي الذي استباح الارض والعرض وكان اشد وطأة وتنكيلا من أي استعمار مضى ...
يبدوا أن القضية أهملها الإعلام، فهي اكبر مما كنت أتصور، نعم اكبر بكثير .. فالإعلام اليوم عندما يتحدث عن اجتياح العراق للكويت أو حق تيمور الشرقية في تقرير المصير والاستقلال عن اندونيسيا أو حق إقليم كوسوفو في الاستقلال يعتبر ذلك كله حق مشروع بل تفرضه القوانين والأعراف الدولية وأسطورة الديمقراطية ونحن ندعم كل الشعوب في الحرية والاستقلال ... لكن عندما يتعلق الأمر بقضية الصحراء الغربية، الشعب الذي يعتز بانتمائه للعروبة وللإسلام، نجده يذبح بأيادي الغدر التي تدعي الاسلام وتخوض الحروب التوسعية والاستعمارية بإسم "احد" و"الزلاقة" لتبرير جرائمها في حق شعب مسلم.
مؤسف جدا هذه الازدواجية في دعم المغرب الذي يحافظ على مصالح أميركا وإسرائيل في المنطقة ومصالح الدول العربية التي دفعت نفقات الحرب ضد شعب اعزل، رغم أن قضيته مسجلة في لوائح الأمم المتحدة بأنها قضية تصفية استعمار، إذن أين هو إعلامكم من وضع النقاط على الحروف ونقل الحقيقة للراي العام العربي والاسلامي؟
الحقيقة يا اخي على ارض الواقع لا كما يصورها الإعلام، استرسلنا في الحديث حتى وصلت الحافلة... متشرفين معرفة خير، تبادلنا عناوين المراسلة عبر الانترنت، كانت أول صداقة نسجتها في كوبا بدأت اتأقلم مع الواقع الجديد،كل شيء تغير في حياتي، إلا الحلم القديم الذي لا بد من تحقيقه بداء عداد الوقت يخترق الزمن بسرعة، ولم يأخذ مني تعلم اللغة الاسبانية الكثير من الوقت، فالجميع يتحدثها، درست كما خططت وكانت النتائج مرضية، انطوى الزمن في الانتقال من فصل لأخر.
بعد كل تلك السنوات التي قضيتها ادرس الطب في كوبا تعرفت خلالها على أصدقاء جدد كان لهم الاثر البالغ في حياتي، حتى أصبحوا جزءا من واقعي، كنا نودع كل عام دفعة أو أكثر من الخريجين.
ليأتي دوري في نهاية المطاف ويتحقق الحلم، يومها كنت أطير من شدة الفرح انتهت سنوات الدراسة، وعدت إلى المخيم الذي ولدت وترعرعت فيه وأنا احقق الحلم القديم الذي لم يفارقني طيلة سنوات الدراسة، صرت طبيبا متخصصا في الامراض العامة استقبلتني الحشود بدموع الفرح والزغاريد غمرتني سعادة لا تتصور، الجميع يتمتم .. الحمد لله على السلامة .. حدث الكثير من التغيرات على طبيعة العمران بالمخيمات، اتسعت رقعته، زادت دائرة جديدة، كبرت الأسواق، شيدت دور ومدارس ومستشفيات، اصبحت هناك مساجد ومدارس قرآنية، تغيرت معالم الولاية وعبدت الطريق الموصلة لوسطها.
الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو طبائع المجتمع المتعاون والمتكافل .. تمسكه بالدين وبالأخلاق وصبره وقوة عزيمته وقناعته في تحقيق النصر والاستقلال.
تذكرت وصية الأم وهي تودعني " الغائب ما ويسول عن كم فوت يسول ألا عن أجاب" أحسست فعلا بالفخر وأن الحلم تحقق بعد اغتراب لسنوات في هافانا. عليا أن ازاول مهامي كطبيب.
اخبروني أن الكثير ممن تخرجوا قبلي دفنوا احلامهم ههنا ورحلوا إلى ما وراء البحار لتحقيق حلم آخر، ونسوا بكل أسف أن الحلم الوحيد الذي درسنا من اجله أن نعالج الشعب لا أن نرحل...
حمة المهدي البوهالي
12 يناير 2008