في كل يوم تشرق فيه الشمس، يشرق معها حلم استرجاع الوطن السليب, وتبدأ يوميات شيخ طالت غربته وانتظاره، في المنفى القسري الذي قدم اليه ضمن عشرات الالاف من الصحراويين الفارين من حرب الابادة.
فأول ما يبدأ به يومه بعد الصلاة، الاستماع للإخبار التي صارت جزءًا من إيقاع يومي في حياته، وعينه على الوطن الجريح وما يعانيه باقي العائلة خلف قضبان الاحتلال, لكن الخبر الجديد نفسه الخبر القديم قرب بزوغ فجر الاستقلال...
تجتمع العائلة كعادة كل عائلة صحراوية على شاي الصباح، تتبادل أطراف الحديث ويطغى على حديث الشيخ، ذكريات الحرب وبطولات الرفاق من جيش التحرير وما حققه هؤلاء الأبطال في ساحات الوغى، من انتصارات هزت قوى العدو ... ويتخلل حديثه الطويل والشيق نصائح من يحمل بين جنبيه روح، لا تستسيغ الاستسلام ولا تقبل الذل ولا المساومة على العرض والوطن...
فيا ابنتي " الحرية " إستشهد عمك وهو واقف كالطلح، في ميدان العز والشرف يصد هجمات الغزاة، و يا ابني "الولي" إستشهد خالك وهو يحاول فتح ثغرة في جدار الذل والعار الذي بناه الجبناء، وإستشهد جدكم محمد الذي قاتل الإسبان والفرنسيين ببسالة حتى استشهد عام " لقليب" على يد الفرنسيين وأخوكم الكبير فلان وعمتكم فلانة وفلان وفلان يعيشون حتى اليوم تحت وطأة الاحتلال ويتعرضون كل يوم لشتى أنواع الاضطهاد، لتعيشوا أحرارا كرماء لا عبيد جبناء ـ
وكل اسم من أسماء أبناء هذا الشيخ يحمل معنى من معان الثورة، فابنتيه الحرية والثورة وأبناؤه بصيري والولي، ولدوا في ظل الحرب وتربوا في " الملاجئ " غرباء عن وطنهم ـ فأنتم جيل المستقبل وفي أعناقكم أمانة الحرية والاستقلال:
ذي قضية مصيرية *** لا يبقى واحد ما جاهـــا
انكوموا كيمة لحمية *** ونموتوا ونحياو امعاها
والعائلة مشدودة البال مع هذا الحديث الذي لانهاية لأطرافه وفصوله ...
الأم : آه لقد أدرككم وقت الدراسة ولم تنتبهوا ـ ولم ينته الحديث بعد ـ الثورة هل أنجزت الواجب المدرسي .. نعم يا أمي، إذن خذي الولي ولا تتأخري عن المدرسة فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ...
يذهب الأب الوقور وهو مثقل الفكر والوجدان بهموم الوطن الأسير، وما يرى ويسمع من أخبار عن تعثر مخطط السلام، وما تمارسه قوات الاحتلال المغربي ضد أبناء شعبه في الأرض المحتلة، ويلاحظ هذا كل من رأى هذا الشيخ فكلامه ممزوج بوطنية تسري في عروقه، وفي نظراته وتجاعيد وجهه إيمانا راسخا بعدالة قضيته، وفي مشيته كالجبل الأشم، صمودا يتحدى غطرسة العدو وجبروت الطغاة ...
يتجه إلى حيث يجتمع يوميا مع بعض الرفاق الذين يستقبلونه بسلام حار ملؤه الود والاحترام ولا يخلو من دعابة وطرافة، ترطب جو الحديث وتخفف شيئا من الهموم
فيسألوا جميعا الشيخ عن جديد الأخبار فيجيب متذمرا من الحلول السياسية العرجاء بقول الشاعر الكبير بيبوه الحاج:
حـد ايتـم يحانـي مقال .. من لمة ويراجـع لبنـود
ولمة من سجال فسجال .. ومن ميعاد فلوخر معقود
ويخلي ذمرة ذيك الحـال ماهو مطروح ولا مرفود
هذا عــاد الركوع اكبــال للي كان الشرط المفقود
والي عاد اللّذهـان يبـــان وهو زاد الموعود يعـود
حد امنين يراجــع لمراد الزينــة ويراجع لبنـود
فلّي قط اخلك من لمجاد كامت بـه ابـاء الجدود
شرط إلـى عادت لحفاد لاهي كيفت لجداد تعود
والي عاد اللذهـان يبـان وهو زاد المقصود يعود
الرجـوع لسطح الميدان صبر الجيش اتعدى لحدود
كافي ذا من طــرح أريان والدوســة لتودي لبرود.
هذه الأشعار أصبحت جزء من حديثه، فهو يستشهد بها بين الفينة والأخرى ويجيب بها عن تساؤلات الرفاق متأثرا بما تحمله من معاني تلامس الواقع ...
وبعد جلسة طويلة ينتفض الشيخ قائما مودعا رفاقه، على أمل اللقاء من جديد، متجها إلى خيمته المتواضعة، ليقضي ما تبقى من يومه رفقة العائلة التي لا تمل قصصه وأحاديثه ...
وبعد يوم عامر من التوجيه واسداء النصائح، ينام الشيخ ليلته على صوت المذياع الذي لا يفارقه، وكله أمل في تحقق الخبر القديم بأفول ظلام الاحتلال وبزوغ فجر الاستقلال.
حمة المهدي ـ 22 ديسمبر 2007