" اليتامى " !
الإتحاد السوفيتي يعيش آخر أيامه , و في منتجع " بوتش " , قرب عاصمة جمهورية " روسيا البيضاء " , جلس ستة رجال يوم 1991 - 12 - 8 يوقعون , وثيقة نهاية الإتحاد السوفيتي , كوحدة قانونية و سياسية و جغرافية .
الرجال هم , فيتلد فوكين و ليانيد كرافتشوك , عن أوكرانيا , ستانيسلاف شوشكيفتش و فياتشسلاف كيبتش عن روسيا البيضاء و بوريس يلتسين و غينادي بوربوليس , عن روسيا الإتحادية .
بقية الجمهوريات , كانت " خضرة فوق طعام " .
نحن , الدفعة الأخيرة من الشباب الصحراويين حينها , وصلنا للإتحاد السوفيتي يوم 11 - 24 - 1989 .
أنا , و مجموعتي , تم " الزج " بنا في قطار متجه إلى " سيبيريا " و قضينا فيه 4 أيام و 4 ليال , حسوم .
وصلنا لمدينة " إركوتسك " عاصمة سيبيريا الغربية و وجدنا الثلوج تغطي المكان .
خرجنا من القطار و أصابنا الذهول .
أرض بيضاء علي مد البصر .
مقياس درجة الحرارة , كان يشير ل - 32 درجة تحت الصفر .
عندما نزلنا , من القطار وجدنا حافلة للجامعة في إنتظارنا , " و كان في إستقبالنا فيها شابآ فلسطينيآ بعثته الجامعة لإستقبالنا , إسمه ياسر و كان يدرس بكلية " الكيمياء " .
قال لنا , مرحبآ بالإخوة الصحراويين في أرض الثلج و العلم....أصابنا الذهول للمرة الثانية في ظرف عشر دقائق...كيف عرف , هذا " الياسر " , بأننا صحراويون و نحن اللذين قيل لنا بأننا جزائرييون و نحمل وثائق سفر جزائرية . " المخبول " الصحراوي , الذي كان جالسآ جنبي في الحافلة , بدأ يغني بصوت خافت...." يا بني يا الصحراء....أنتم في الوغي...."...
نظر إلى , و قال , إشهد يا محروق بيو , بأنني أول من غني النشيد الوطني في " سيبيريا " .
قلت له , شهادتي مجروحة , إذا لم تغن..." أنا الرفيق المستحيل..." .
ضحكنا , رغم صعوبة الضحك حينها .
وصلنا للسكن الجامعي و بدأنا في دراسة اللغة الروسية و التأقلم .
إنتهى العام الدراسي , و قبل دخولنا للجامعة , جاء " لمعيط " ....... " الصحراوي , أينما كان , إرغن رأسو و إحسنو فالرابوني "...الإستفتاء...
رغنا روسنا و قلنا محب الله يا الرابوني .
لقد كانت كلمة الإستفتاء حينها كلمة دافئة و تبعث على السكينة و الإطمئنان و الهدوء .
سكتت البنادق يوم 9 - 6 - 1991 .
سكت معها صوت الشعب الصحراوي .
تمت عرقلة الإستفتاء , و عاد الطلبة الصحراوييون لمدارسهم و لثانوياتهم و لجامعاتهم .
عدنا , نحن ل " سيبيريا " .
قبل بداية العام الدراسي , بأيام , سارت " شائعة " بين الطلبة , بأن الإتحاد السوفيتي , كضامن لدراستنا لم يعد موجودآ و بأن هناك تعليمة للجامعات , بأن الدراسة الان صارت على حساب الشخص و بأن علي الطلبة الإتصال بسفاراتهم لدفع أقساط الدراسة .
1500 دولارآ للعام .
يا أنهار أبيض...نحن الصحراوييون , كانت منحتنا 50 دولارآ في الشهر , تأتينا مجتمعة كل 6 شهور .
إنتهى الحلم , قبل أن يبدأ .
دخل علي , طالب موريتاني , من طلبة الطب , و قال , لقد إتصلت بسفارتنا في " موسكو " و قد قال لى ملحقنا التجاري , بأنني , إذا تأكدت , بأن الخبر صحيحآ , فإنه سيناقش الموضوع مع السفير و سيكتبون رسالة للحكومة الموريتانية لحل هذا الموضوع .
لا تقلقوا .
طاح علي الظيم .
أنا كنت أفهم , بأن من لا وطن له , لا حياة له و لكن إحساسي باليتم تضاعف ذلك اليوم .
أردت البكاء و لكن الدموع خانتني .
في المساء , دخل علي شابآ فلسطينيآ و كان يدرس معي في نفس المجموعة , تخصص صحافة .
كان ينتمي للحزب الشيوعي الفلسطيني....كان مثقفآ و مفوهآ و كان يحمل بين أضلعه قلبآ رحيمآ و مرهفآ .
كان يحمل روحآ مليئة بالدعابة و قدرة عجيبة علي النكتة ساعة الأزمات .
كان يسكن في الغرفة المقابلة لغرفتي و في الساعة السابعة صباحآ من كل يوم , تسمع صوت فيروز ....الجميل....الأجش...." الطفل في المغارة و أمه مريم , و جهان يبكبان..." .
لقد كان نضال , إبن آخر من أبناء المخيمات .
لقد , تصادقنا بسرعة , لأننا متشابهين - تقريبآ - في كل شيء .
أوطاننا في" المزاد " و " منح " دراستنا , تحت التهديد .
لقد كان , إبن مخيم " الزرقاء " للاجئين الفلسطينيين في الأردن .
لقد صار نضال مدمنآ علي " أتاي " الصحراوي و صار يمر على كل مساء لتناول " خمر " الصحراويين , كما كان يطلق عليه , أخونا نضال .
الظاهر بأن نضال , سمع نفس " الإشاعة " عن ضرورة الدفع للجامعات لإكمال الدراسة .
دق علي الباب....فتحت الباب....نضال بالباب .
دخل و وقف و بدأ يغني بصوت جهوري..." المال في الغربة وطن....و الفقر في الوطن غربة...يا ليل....يا عين...صب كأس يالصحراوي....يلعن ابو الفقر....يا ليل....يا عين...." .
ضحكنا , حتي أدمعت عيوننا...
قال نضال , بأنه سمع بأن الموضوع , مجرد " إشاعة " و بأن روسيا , أخذت علي عاتقها كل حقوق و واجبات الإتحاد السوفيتي و بأنها هي الوريث القانوني و السياسي و الأخلاقي للإتحاد السوفيتي و بأن الدفع - حتي اذا سلمنا جدلآ - بصحة هذه " الإشاعة " , فإن الدفع , سيبدأ مع الطلاب الجدد....نحن نفذنا .
نفذنا , بالتعبير , الدارج الأردني , تعني " أسلكنا " .
" إشاعة " دفع 1500 دولارآ , طلعت " سحابة " صيف , لا أساس لها , و لكنها عمقت إحساسي باليتم و زادت من إيماني , بأن " من لا وطن له , لا حياة له..." .
و " يا ليل....يا عين...المال في الغربة وطن....و الفقر في الوطن غربة....صب كأس يالصحراوي....يلعن أبو الفقر....يا عين....يا ليل....." .
د : بيبات أبحمد .