في زمن الاضطراب العربي، خرجت من رمال الخليج دويلة صغيرة المساحة محدودة السكان، لكنها راحت تتصرّف كما لو كانت قوة عظمى خفية تملك مفاتيح القرار في الإقليم، وتتحرك في مسارح الجغرافيا السياسية بأريحية لا تملكها دول ذات وزن وتاريخ.
تلك هي الإمارات العربية المتحدة؛ الدويلة التي جعلت من المال بديلاً عن التاريخ، ومن التحالفات المشبوهة طريقاً إلى النفوذ، ومن الأدوار القذرة وسيلة للتموضع تحت أضواء الكبار.
من ليبيا إلى السودان، ومن الصحراء الغربية إلى موريتانيا، ومن القرن الإفريقي إلى اليمن، ومن موانئ البحر الأحمر إلى جزر المحيط الهندي، امتدت أذرعها العسكرية والمالية والإعلامية، كأنها شبكة عمليات تديرها وكالة في الظل.
ليست الإمارات هنا فاعلاً وطنياً يسعى إلى خدمة قضايا الأمة، بل أداة مدفوعة بثروة النفط وبطموح مضخمٍ يتجاوز وعيها السياسي.
في ليبيا، كانت الراعي الأول لحروب الوكالة، زوّدت أمراء الحرب بالسلاح والطائرات المسيّرة، وساهمت في تدمير مسار الانتقال الديمقراطي، خدمةً لأجندة "مكافحة الإسلام السياسي" كما تسميها.
وفي السودان، تحولت إلى المموّل الرئيسي لصراع الجنرالات، تُرسل الذهب وتستورد الدم، تُسوّق نفسها وسيطاً، وهي في الحقيقة جزء من ماكينة الحرب ذاتها.
أما في اليمن، فادّعت نصرة الشرعية بينما أقامت جيوشاً موازية ومليشيات تدين لها بالولاء، واستولت على الموانئ والجزر الحيوية، من سقطرى إلى المخا.
وفي الصحراء الغربية، لم تتردد في منح شرعية سياسية للاحتلال المغربي عبر فتح قنصلية رمزية، في تناغم تام مع إسرائيل، ضمن محورٍ جديد يقوم على التطبيع مقابل الدعم السياسي.
وفي دول الساحل والصحراء، تُقدّم نفسها كفاعل إنساني، بينما تتسلل عبر المساعدات لتأمين موطئ قدم في قلب إفريقيا الغنية بالثروات الطبيعية، تموّل الانقلابات حيناً وتُغازل النخب الحاكمة حيناً آخر.
لقد أصبحت هذه الدويلة مختبراً للأدوار القذرة التي تتجنب القوى الكبرى تنفيذها مباشرة:
تمويل المرتزقة بدل الجيوش النظامية.
شراء النفوذ بدل بناء التحالفات الشرعية.
هندسة الفوضى تحت شعار "الاستقرار".
وإقامة العلاقات السرية والعلنية مع إسرائيل كجسرٍ إلى رضا واشنطن وتل أبيب.
كل ذلك يجري في فضاء جيوسياسي يفوق حجمها أضعافاً، حتى كأنها وكالة عمليات خاصة متنقلة بين القارات، تمتلك المال ولا تمتلك الرؤية، تشتري الذمم ولا تملك الشرعية، وتستعرض القوة دون أن تملك عمق الدولة.
لكن التاريخ لا يرحم، ومن يلعب خارج حدوده الطبيعية ينكسر تحت ثقل الدور الذي تَقمّصه.
إنّ الإمارات اليوم تبدو كمن استعار عباءة القوة العظمى، فاختنق بثقلها؛ فليست لها مقومات الزعامة، ولا جذور الدولة الحضارية، ولا وعي المصلحة القومية.
وما إن يسحب الحليف الدولي المظلة، حتى تنكشف حقيقتها: كيان هشّ محكوم بالمال والغرور، لا بالشرعية والسيادة.
سلامة مولود اباعلي
