القائمة الرئيسية

الصفحات

أنشودة للحياة (قصة قصيرة)



مارس 2011
المدينة جاثمة على آلامها ... رابضة في المأساة ... مطمورة في ظلام التعتيم ومتاهات التضليل ... مقهورة في عز العداء ، وكل زاوية من زواياها محروسة بسياج بشري مدجج ، مهمته الاعتقال والتنكيل والفتك بكل من يخالف أحلام وأوامر الملك ، ومن وضع المدينة المستباحة تشتم رائحة الموت في أبشع صور الجور والتعسف والغبن والحرمان ، ومنزل عبد السلام بطلائه القديم المتلاشي في زمن الخراب ، يتوسط دائرة الحصار ، الشارع مكتظ بأغنام من المستوطنين الباحثة عن ما يسد رمقها ، وبوحوش من المخزن ضارية تكشر عن أنيابها تتأهب للوثوب على ضحية هنا أو هناك ... ثغاء ... نباح ، وهدير آليات كالرعد يهز المدينة المكلومة بأوجاعها كحال أخواتها في بلاد حولها الدخلاء الى سجن كبير يطوق أهلها الأبرياء ، الذين أبوا المبيت على الضيم ونهش الكرامة .
       في العيون الحائرة والوقت مساءا ، وعندما أرخت جدائلها وبدأت جواهرها المسروقة تتلألأ من بين ثنايا الظلام تكشف حيلة المحتال ، كان الصحراويون قلة يخفون نوايا التظاهر بين تلك القطعان المتموجة جيئة وذهابا ، وقبالة السوق العتيق قليل منهم ، وفي الأزقة الضيقة بعضهم يتهيأ بعدده المتواضع في ذلك السيل الغريب ، يحمل عتادا سلميا لكسر الجمود والرضوخ ، وكل من زاويته يتحين ساعة الصفر على أحر من الجمر ، والعيون الشاطئية لم تطبق أجفانها بعد على ما يؤلمها ويمكن أن يسيل دمعة الأحزان من أحداقها ، لقد ولى زمن النوم والخمول في حالها ، فالجرح غائر وعميق وعذابات الدهر وتسلط تتار هذا العصر ومغول هذا الزمان أخذت منها كل شئ ، حريتها وجمالها ، ونظافة بدنها وموطنها من الدنس ، وحتى عطرها المنبثق من المحيط لم تسلم رائحته مما يزكم أنفة الأنوف ..
       في الطابق العلوي من منزل عبد السلام ، وقبالة ذلك الشارع المأهول تسمرت أعين تراقب الوضع عن كثب ، وتدرس كيفية التحرك ، ونقطة التجمهر والانطلاق ، وكان محمود ذلك الشاب النحيل البنية ذو العينين الجاحظتين والبشرة المائلة الى السمرة يمضي وقته مطلا من الشرفة يحسب كل كبيرة وصغيرة في تحركات المخزن ، وكل نقص ملحوظ في تعداد المستوطنين .
       يسأله عبد الله ذاك الرجل الستيني وقد رفع أكمام دراعته وربط لثامه حول خاصرته :
      ـ نحنا شنحانو ؟
      يجيبه محمود بنبرة التأني والحرص على إنجاح المهمة :
      ـ الحال مزال ماهو عاطي ...
      قالها بلهجته الحسانية الخالصة ثم أردف بلغة عربية نظيفة :
      ـ فلنصبر حتى تأوي الذئاب الى مخابئها ، وتعود تلك الأغنام الى زريبتها .
      أحب عبد الله هذا الوصف وقد ذكره بحياة البادية وذكريات الصبا في بلاد لا يرى غيرها منبعا لكرامته وأصالته الضاربة عبر بجذورها عبر التاريخ .
     وبينما كانت سعادو ربة البيت الحامل في شهرها الثامن منشغلة طوال الوقت بإعداد الفطائر لمن قرروا المبيت على الطوى ليلتها ، كان عبد السلام زوجها الطيب ، الطويل القامة ، الاشعث الشعر قد همس لخليته بأن تلتف حوله لمراجعة الخطة في ظل ذلك الانتظار الطويل ، وعندما كان الهدوء يتسلل الى كل أرجاء البيت بفعل الانشغال العميق بالخطة والتركيز الكبير على حيثياتها وعلى التعديلات المزمع إجراؤها ، تشتم رائحة فطيرة وقد التهمتها نار الموقد بكاملها ، وفي غفلة من سعادو التي أنهكتها ظروف الحمل وأخذ منها الإعياء مأخذه مع نوبات الدوار التي تعاودها بين الفينة والأخرى .
        عبد السلام كان على علم بكل معاناة زوجته ، وتوقع عند أول لحظة بأن شيئا ألم بها ، فخرج مسرعا ينادي عليها في دهشة وخوف شديدين :
        ـ سعادو ... سعادو ... أنت أمنين ؟ ... هذا شنهو أنت لا باس ؟ 
        يتبعه محمود وعبد الله ومنصور ودلف الجميع الى داخل المطبخ الذي تكونت فيه أكوام من الدخان الكثيف كادت أن تحجب رؤية ما بداخله ، لكن سعادو التي كانت جالسة تستند الى باب المطبخ تأخذ قسطا من الراحة ، أصابتها دوخة أدت الى إغمائها وتفاقم الأمر سوءا برائحة الفطيرة المحروقة ، وجدوا سعادو ممددة كما لو كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ، فإنتشلوها بلطف الى فسحة من المنزل حيث يمر الهواء ، وأخذوا يرشونها بالماء البارد ويمدونها بالحليب ، ويضعون منديلا مبللا بماء الورد على أنفها علها تصحو من غيبوبتها ، فكان أن فتحت عينيها تحدق في من حولها تستذكر آخر لحظات وعيها :
       ـ أنا أمنين كنت ؟
        يجيب زوجها عبد السلام بعد أن عاد قلبه من رحلته المفاجئة خارج صدره ، متظاهرا أمامها بالثبات والرزانة ، وجاعلا من وعكتها أمرا بسيطا وعابرا :
       ـ ما أحركتي ، أللا سركتك غفية أشوي أولا باس .
       تجيب سعادو بعد أن إستعادت وعيها كاملا :
       ـ الحمد لله ... الحمد لله ، ثم تضيف قائلة بصوت مبحوح والمهمة لم تغب عن ذهنها :
       ـ أنتوما أشعدلتو ؟ 
       يجيب عبد السلام في تهكم غلب عليه المزاح :
       ـ طيبنا لخبزَ ! في إشارة الى الفطيرة المحروقة التي إختفت رائحتها في المنديل المبلل بالمسك على أنفها ، ولتفهم ذلك من قبل الزملاء ، علت ضحكات وإرتسمت إبتسامات أزالت قدرا كبيرا من الهم والغم الذي ملأ المنزل في تلك اللحظات العصيبة التي خلت في خوف شديد على سعادو وعلى حالتها .
      ويبدو أن ذلك المزاح راق لسعادو دون أن تفهم ما يرمون إليه ، فأدلت بدلوها مباشرة قائلة في صلب الموضوع الذي كان بين أيديهم من قبل :
       ـ لغنم راحت واللا مزالت سايحة ؟
       يجيب منصور ذلك الشاب المؤدب الممتلئ الوجه ، المفتول العضلات ، وهو يمسك قلما دون به في وقت سابق على قصاصة ورق بعض الملاحظات الهامة للخلية حول كل ما من شأنه عرقلة المهمة ، حيث قال بنبرة فيها الكثير من الفتوة والاحتقار للأعداء :
       ـ لكلاب بعد مزالت أمكابلة يللي كللها !!!
       ترد سعادو وكأنما اعتراها بعض الغضب وهي تشتم منديلها المبلل بالعطر، دون أن تدرك أن بقايا الدخان الذي كان يزكمها ويحشرها في غيبوبتها ، كانت تتلاشى شيئا فشيئا  مع نسيمات الهواء العابرة من النوافذ :
       ـ يفرك نحنا أوهوما أن شالله والباس فيهم ، يطويهم عنا بركت ذا الوقت أوكل وقت . 
      " ساجب ألها مولانا " كما يقول الصحراويون بلهجتهم الحسانية الصرفة عندما يحدث الدعاء أثره ، وكان أن تجلى ذلك في خلو الشارع إلا من رهط من المخبرين وبعض قوات لمخازنية ، وكانت تلك فرصة مناسبة شيئا ما للنزول الى الشارع لولا وقع خطوات سمعه عبد السلام الذي نزل لتوه الى الطابق السفلي للمنزل ، أخذ يسترق السمع لحظات وذاك الصوت يقترب رويدا رويدا حتى إنتهى بضرب خفيف على الباب ، تردد هنيهة لكنه فتح ورد التحية بمثلها على القادم وقد عرفه ، وهو رجل حاد الذكاء يحسد على رزانته وإخلاصه ، مكلف بتعليل الملابسات وتحليلها والكشف عن كل ما هو مشبوه قبل كل تحرك ، ولج الاثنان معا الى حيث بقية الرفاق في الطابق العلوي ، كان القادم عزيزا بالفعل بين قومه حين تفتحت أساريرهم ابتهاجا بمجيئه ، وأملا في أن يحمل إليهم في جعبته  ضوءا أخضرا لبدأ عملهم النضالي ، حيث كانت تزداد حماستهم للمهمة لحظة بعد أخرى ، لكن التوتر غير المعهودة في شخص المعلوم جعلهم في حيرة من أمرهم ، ينتظرون ما يذيب كرة الثلج التي تكومت بين ظهرانهم تتقاذفها التخمينات ، جلس الجميع مشدوها الى من بيده أحد أزرار الحراك المبرمج وهو يفرك يديه ويعض على شفتيه في حنق وغضب بارزين ليقول بصوت أجش غلبت عليه المرارة الى حد البكاء :
      ـ يؤسفني إخواني أن من بيننا وشاة وخونة وعملاء ، وهذه مسألة لا تناسب فعلنا النضالي مستقبلا ، فتبا لهؤلاء ، وسحقا لمن يتستر عليهم حتى ولو كان من أقرب المقربين منهم !!! ... لا تأخذكم بهم رحمة إن كنتم مخلصين ، إنهم الإنتهازيون والعملاء المتاجرين بأحلام الشعب وإرادته الراسخة في الخلاص من كل أشكال الظلم والطغيان ، وخسئوا مهما إمتلأت جيوبهم من أموال الخيانة .. قوتنا تكمن في صيانة كرامتنا والوفاء بالعهد ولن نتراجع أبدا بحول الله وقوته ، فنحن كما يعلم هؤلاء الأنجاس ويعلم أسيادهم جيدا ، نتغنى للموت بل ونراها في سبيل الحياة هي الحياة .  
بقلم : محمد حسنة الطالب

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...