الإنسان الذي ولد وكبر وربما قدر له أن يموت وهو لأجيء، هو مجرد بدن، فكر و قوة ضائعين بعيدا عن وطنهم وبيئتهم إن لم يسرقه الاعداء والطغاة واللصوص، ستسرقه الغربة، غربة الأماكن والوجوه والثقافة والدين ..
اوجعني مرة شاب إلتقيته بالجزائر العاصمة شهر جانفي 2019، كنت وقتها في زيارة لغرض الحصول على تأشيرة الى إيطاليا، إيطاليا التي لم ترفض لي فيزا منذ بدأت زيارتها قبل سنوات، نظر الشاب إلى جواز السفر وعدد التأشيرات التي يحمل فقال لي وهو يبتسم: هذا الجواز يسوى مليار، مليار بحساب أن ثمن كل تأشيرة 100 مليون، الأن تجاوزت تسعيرة الفيزا وكذا الحرݣة إن وجدت 200 مليون.
والواقع أن سبب حصولي على تلك التأشيرات ببساطة هو أنني لم اقم ب(احرݣ) أيا من التأشيرات هنا في اوروبا بل بالعكس اتذكر مرة انني حصلت على فيزا وبدل التوجه وراء البحار ضيعت وقتها كله في المخيمات، هؤلاء الاوربيين ملاعين في موضوع الهجرة وقبول طلبات التأشيرة لكنهم رائعون أيضا في الإلتزام خاصة عندما يحترم الإنسان قوانينهم، فعندما يلاحظون انك لا تزور بلدانهم بغرض البقاء إلى الأبد وتدخل وتخرج مرتين او اكثر بدون (حرݣ) الفيزا سيمنحونك التأشيرة وقت ما تريد وبدون أي مقابل.
منذ أن بدأت ازور البلدان الاوروبية أتذكر أنه لم تكن لدي أبدا رغبة في البقاء هنا إلى الأبد، بل لا أتذكر أنني قضيت مدة أكثر من شهر متواصلة في ديار الغربة إلا خلال إقامتي العام الماضي والسبب كان أن قدر الله أن اصبت بكسر برجلي اليسرى اضطرني إلى البقاء ثلاثة أشهر بدون أن أستطيع الوقوف لأتحرك.
وبالعودة الى موضوع الشاب الذي إلتقيت، بل مئات الشباب الذي إلتقيهم والذين لا حديث لهم إلا عن الهجرة و(الحرݣة) والفيزا، هؤلاء الذين ضاقت بهم الأوطان والسبل فإنني أجد لهم مليون عذر.
كرهي للغربة مسألة شخصية لا علاقة لها بما للغربة وما عليها لذلك اتفهم دائما رغبة الناس خاصة الفئة المراهقة والشابة التي تبيع كل شيء اليوم وتركب جل المخاطر لأجل الوصول بأي ثمن إلى الضفة الأخرى.
أكره هؤلاء الذين يغادرون المخيمات طوعا وبعد أن يؤسسوا لمستقبلهم ويحصلون على وثائقهم الجديدة -ومن حقهم- لا جدال في ذلك، يعودون ليزايدوا على الشباب "الكاره احياتو".
بنوع من التناقض الفاضح يحاول البعض أن يبرر مغادرته اللجوء بالقول للناس أن الغربة لعينة وأن المخيمات جنة، غير ان عدم الرغبة في البقاء في هذه "الجنة" مجددا وترك الغربة اللعينة التي جربت يفضح نفاق وانانية كثير منا ويسقط عنه المصداقية والموضوعية.
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ستظل الهجرة الى الأماكن الآمنة والتي تقدم فرص العيش الافضل وجهة كل إنسان، والى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيظل الإنسان مهما سافر ومهما اغترب إبن بيئته وهذا هو التحدي الوحيد الذي على كل مواطن أن يربحه مهمها إبتعد عن موطنه ومجتمعه.
أتذكر مرة زارنا رئيس الجمهورية الحالي إبراهيم غالي في مقر التلفزيون الصحراوي، أخبرته أن أصدقائي وزملائي يصفونني بالجنون و"لفيسد" لأنني ربما كنت الوحيد من الشباب الذي يغادر سنويا المخيمات مرتين وثلاث في العام بإتجاه الغربة ثم يعود ادراجه إلى المخيمات، قلت له هؤلاء الزملاء الذين أمامك يا سيدي الرئيس فقط لم تتح لهم الفرصة وإلا لن يعودوا إلى هنا إلا زوارا من الجالية.
لازلت أعتقد انني إستثناء في هذه الحالة، فقد إلتقيت صديق أخي الأكبر، قبل مدة إعتقدت في البداية أنه إستثناء من نوع أخر فهذا السيد قام في لحظة غضب من الغربة بحرق وثائق سفره التي تربطه بها، الان هو يبحث عن تأشيرة بأي ثمن للذهاب مجددا إلى اسبانيا.
على فكرة أنا لا ألوم الذين يغادرون المخيمات ولست من النوع الذي يزايد على الناس او يتدخل في إختياراتهم، اوروبا تعج بملايين المواطنين الذين غادروا بلدانهم المستقلة والمستقرة فكيف لا تعج بآلاف أخرى هربت من واقع اللجوء والحرمان والحرب.
عن نفسي، لدي قناعة شخصية لا تلزم أحدا، انني لا استطيع العيش في الغربة لكنني مؤمن تماما ومقتنع انها مكان أفضل لبناء الذات وتحسين المستوى ليس فقط المستوى الشخصي وإنما ايضا مستوى عائلة المغترب التي تقطن اللجوء وكل من "أرفد هم" أسرة في حركة تحرر فقد ساعد بطريقة ما قضية شعبه لذلك لا تخجلكم غربتكم وتحرروا من العقد.
علينا اذا نترك الناس تختار بحرية، إن إيماننا واحترامنا للحرية الشخصية للأفراد سيجعل هذا المجتمع وهذه القضية أفضل وسيجعل ذلك أيضا من الفرد نفسه أيا كان مكانه مواطنا نافعا لنفسه ولأهله ولشعبه.
والله إفرج اعلا كل شاب ويعطيه ما يتمنى بلي فيه لو الخير يسوى هون او هوك ..
عبداتي الرشيد