أنور بن مالك لم يهبط فجأة في هذا الموقع، ولم يُصنع هذا الانقلاب من فراغ. هو رجل خرج من رحم ثورة ضحّت بمليون ونصف المليون شهيد دفاعًا عن الحرية والاستقلال، وانتمى إلى جيش وُلد من هذه التضحيات، جيش التحرير الوطني الذي كان يُمثّل القيم العليا للثورة: التضحية، الانحياز للمستضعف، والتمسك بالمبادئ مهما كانت التضحيات. لكن ما نراه اليوم هو انسلاخ كامل من هذه المبادئ، وانحياز مطلق للقصور وموائد التطبيع السخية، حيث تُقاس المواقف بمقدار الولاء والطاعة، وليس بالضمير أو المبادئ. كل من ينخرط في هذا الولاء يُفترض به أن يطوّي صفحات الثورة وينسى دماء الشهداء، وكأنها لم تُسكب، ويعيد سرد الرواية الجاهزة بلا تفكير أو سؤال.
كتاب “أسرار الإرهاب من طهران إلى تندوف” لا يُقرأ كتحليل سياسي أو أمني، بل كوثيقة اصطفاف. ليس لأنه ينتقد إيران، فالدول تُنتقد، بل لأنه يحوّل دعم حركات التحرر إلى تهديد، ويحوّل قضية تصفية استعمار إلى ملف أمني، مستخدمًا لغة سبق أن وُظّفت ضد جبهة التحرير الوطني الجزائرية وضد كل ثورة في التاريخ. الرجل الذي شهد الثورة عن قرب يعرف كيف وُصفت المقاومة الجزائرية بالعصابات، وكيف كان من يتحدث باسم الشعب يوصف بالإرهاب، لكنه اليوم يطبق نفس المنطق ضد شعب آخر يسعى لتقرير مصيره، بينما يغض الطرف عن تحالفات القصر مع أعداء الأمة.
كل الثورات، دون استثناء، وُوجهت بمحاولات لتشويه صورتها وربطها بالخارج. مانديلا وصفته بعض القوى الغربية بالإرهابي، وحركات التحرر في جنوب إفريقيا وناميبيا اتُهمت أحيانًا بالارتباط بالقوى الأجنبية، والمقاومة الجزائرية وُصفت يومًا بـ”تهديد الاستقرار”. لكن هناك فرق كبير بين من يُتهم وهو صامد على مبادئه، وبين من يختار الولاء الأعمى للقصر مقابل نعَم وامتيازات مؤقتة. كل من يغيّر قناعته بين عشية وضحاها لا يمكن أن يقدم دروسًا لأحد، ولا أن يكون مرجعًا أخلاقيًا لأي قضية.
الأكثر فداحة في هذا الانقلاب الأخلاقي ليس فقط التخاذل في الموقف، بل تحويل القضايا العادلة إلى عبء سياسي، وتحويل المقاومة إلى تهديد، مقابل امتيازات موائد التطبيع والقبول بالقصر. هذا الولاء الأعمى لا يقاس بالضمير أو المبادئ، بل بالقدرة على الانحناء أمام مصالح شخصية أو سياسية، والتخلي عن كل ما دافع عنه الشعب والتاريخ.
قضية الصحراء الغربية لم تتحول إلى “إرهاب” إلا في خطاب من يريد دفنها سياسيًا. هي قضية تصفية استعمار، وجمهوريتها معترف بها إفريقيًا، ونزاعها مدرج أمميًا، وجيشها منظم ومنضبط. من يختزل كل هذا في توصيفات أمنية، ويقارن بين الحق والولاء للقصور، لا يبحث عن الحقيقة ولا العدالة، بل عن رضا السلطة التي تمدّه بالنعَم وتكافئ الولاء بالصمت والقبول.
قال تشي غيفارا إن الخيانة ليست أن تُهزم، بل أن تغيّر المعسكر. أنور بن مالك لم يغيّر رأيًا فحسب، بل غيّر البوصلة بالكامل. من جيش وُلد من الثورة إلى خطاب يتغذّى من موائد التطبيع، ومن لغة التحرر إلى قاموس القصور. وهذا ما يجعل كتابه ليس قراءة في “الإرهاب”، بل شهادة على كيف يمكن للولاء الأعمى أن يُطمس الذاكرة، وكيف يمكن للنعَم أن تُسكت الضمير، وكيف يُعاد تعريف الثورة حين تصبح مزعجة لمن يجلسون في الأعلى بعيدًا عن الحق وعدالة القضايا، وبعيدًا عن دماء مليون ونصف المليون شهيد.
13 نوفمبر 2025.
سلامة مولود اباعلي
