11نوفمبر 2025م
كيف تُعيد واشنطن إنتاج خططها المرحلية لاحتواء حركات التحرر؟
هل ستقع جبهة البوليساريو في نفس خطإ منظمة التحرير الفلسطينية ؟؟
هل سيغريها بريق الوعود بدولة صحراوية مستقلة على مراحل تبدأ بتسليمها سلطة ذاتية موسعة تحت "السيادة المغربية" حتى يتم تنظيم استفتاء "للإنفصال" عن المغرب؟
إنه نفس نمط الفخ الذي وقعت فيه منظمة التحرير الفلسطينية
إذ تُظهر السياسة الأمريكية عبر العقود الماضية نمطًا ثابتًا في إدارة القضايا المصيرية للشعوب غير المنضوية ضمن منظومتها الدولية. هذا النمط يقوم على الإحتواء المرحلي لا الحل الجذري وعلى تقديم وعود مشروطة بالدولة والإستقلال.
بينما تُنشأ في الواقع كيانات انتقالية خاضعة للوصاية الأمنية والاقتصادية من طرف قوى الإحتلال المدعومة آمريكيا كما هو الحال في فلسطين والصحراء الغربية.
فمن اتفاقية سلام مدريد (1991م) التي أسست لمسار أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" إلى الإعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية (2020م) في صفقة مرتبطة بالتطبيع مع إسرائيل.
تتجلى العقلية الأمريكية في إدارة الصراعات وفي دعم مشاريع التوسع الصهيوني.
إنها لعبة تحويل المطلب التحرري الأصيل إلى مشروع إداري وتفكيك جوهر القضية عبر مراحل ملغومة بالوعود المؤجلة.
مختبر السياسة الأمريكية في تفكيك القضايا العادلة
بعد نهاية الحرب الباردة سعت إدارة الرئيس جورج بوش الأب إلى بناء "نظام شرق أوسطي جديد" يعيد ترتيب الإقليم وفق رؤية أمريكية.
وجاء مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م ليحوّل الصراع العربي–الإسرائيلي من قضية تحرر واحتلال إلى نزاع قابل للتسوية السياسية.
جُرّت منظمة التحرير الفلسطينية إلى هذا المسار في لحظة ضعف استثنائية.
انهيار الإتحاد السوفييتي وخسارة الدعم العربي بعد حرب الخليج وانحسار التمويل الدولي.
وتحت وعود أمريكية وغربية بفتح الطريق نحو الدولة الفلسطينية قبل ياسر عرفات الدخول في مفاوضات مدريد التي قادت لاحقًا إلى اتفاق أوسلو (1993م).
لكن أوسلو لم تُنتج دولة ولاحكما ذاتيا موسعا بل سلطة محدودة الصلاحيات تحت السيطرة الإسرائيلية.
وتحوّل “الحكم الذاتي المرحلي” إلى وضع دائم وتحولت منظمة التحرير من حركة تحرر وطني إلى سلطة إدارية مرتبطة بالإحتلال أمنيًا واقتصاديًا وهكذا نجحت واشنطن في احتواء الثورة الفلسطينية دون إنهاء الإحتلال.
ودون إحلال السلام ليؤدي تآكل دور منظمة التحرير الفلسطينية إلى بروز حركات مقاومة أشد سراسة وقدرة على مواجهة المشروع التوسعي الصهيوني.
وهاهو ترامب يعيد بناء نفس النمط للحلول الأمريكية في فلسطين بخطة من 20بندا سيعيد بها لعبة الوقت دون استهداف حل جذري .
الصحراء الغربية نسخة محدثة من المنهج ذاته:
لايقل المشروع المغربي الصهيوني للتوسع أهمية لدى أمريكا عن نسخته في فلسطين فهما طرفا كماشة يهم أمريكا أن يقضما كل الدول الموجودة في دائرة الإستهداف بينهما من دول وشعوب وثروات استراتيجية.
وكما كانت مصر الثوار عقبة كأداء تم احتواؤها في كامب ديفد فإن جزائر الثورة هي القلعة الأخيرة إسلاميا وعربيا الصامدة في وجه كل عواصف الصهينة والخضوع ويتم العمل على احتوائها "إيجابيا".
تماما كما صدقت مصر أكذوبة الحكم الذاتي المؤقت للفلسطينيين يراد من الجزائر أن تدعم نفس المنهج في الصحراء الغربية وقد يفسر ذلك التناقض الصارخ في القرار 2797 فهو تناقض مقصود يثبت للصحراويين حق تقرير المصير ويلوح لهم بحكم ذاتي موسع قد يسوق لاحقا على أنه مرحلي فقط!
إن اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل تطبيع العلاقات المغربية–الإسرائيلية هو اعتراف غير قانوني أصلا ومتعارض مع قرارات الأمم المتحدة وخطة بيكر للسلام .
تماما كاعتراف ترامب بسيادة "إسرائيل" على القدس والجولان السوري.
وقُدمت تلك الخطوات على أنها “حل واقعي ودائم” لكنها مثّلت في الجوهر هندسة جديدة للنزاع وفق مصالح التحالف الأمريكي الإسرائيلي المغربي ووجدت جبهة البوليساريو نفسها أمام مشهد يعيد إنتاج تجربة منظمة التحرير الفلسطينية فبدل التمسك بقرارات الأمم المتحدة الداعية إلى استفتاء تقرير المصير دفعت واشنطن نحو خيار الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية مقدمةً ذلك باعتباره "حلًا سياسيًا واقعيًا" ورُبطت القضية أيضًا بخطاب التنمية والإستقرار والإستثمار لتتحول من قضية تحرر وطني إلى ملف إداري وتنموي خاضع لتوازنات إقليمية ودولية.
هكذا وبذات المنطق الذي ساد في أوسلو جرى تفكيك المطلب الأصلي (الإستقلال) لصالح صيغة غامضة ومطاطة تُبقي السيطرة السياسية والعسكرية بيد الطرف الأقوى.
منطق “المرحلية الملغومة” في العقل الإستراتيجي الأمريكي.
السياسة الأمريكية في جوهرها ليست سياسة حلول نهائية بل إدارة أزمات تنطلق من فرضية أن إطالة أمد النزاع في ظل ميزان قوى موجه يخدم مصالحها أكثر من إنهائه وتقوم الآلية الأمريكية في التعامل مع القضايا التحررية على أربع مراحل رئيسية هي:
1_ خلق مرحلة انتقالية غامضة تُقدَّم على أنها بداية الحل بينما تُؤسس في الواقع لنظام مؤقت طويل الأمد.
2_ احتواء القيادة الثورية عبر دمجها في منظومة تفاوضية ومؤسساتية خاضعة للدعم الخارجي تحت التهديد بالإجتثاث بالقوة .
3_ تحويل مركز القضية من التحرر والسيادة إلى الأمن والتنمية والاستقرار.
4_ إعادة تعريف المفاهيم بحيث يتحول “التحرر الوطني” إلى “إصلاح مؤسسي” و“الإحتلال” إلى “نزاع سياسي” وبهذه الأدوات الناعمة تُعيد واشنطن إنتاج السيطرة عبر خلق "حلول وسط" ظاهرها الإعتدال وباطنها الإدامة.
المقاربة البنيوية بين التجربتين في الحالتين الفلسطينية والصحراوية:
نجد عناصر تطابق بنيوي في منهج إدارة الصراع كما يلي:
١_ القوة الدافعة أمريكية وتستند إلى تحالف مع "إسرائيل" وحليف إقليمي (إسرائيل في الحالة الأولى المغرب في الثانية).
٢_ الأداة السياسية واحدة الحكم الذاتي المرحلي الذي قد يُقدَّم كبداية نحو السيادة لجر البوليساريو لمظلة هيمنة المغرب بتواجدها كسلطة ذاتية في الصحراء الغربية كما جرى مع الراحل عرفات ونخبة فتح حين وقعوا أسرى لجغرافيا رام الله تحت رحمة العدو.
الخطاب السياسي متشابه:
“الواقعية السياسية” “الفرصة التاريخية للسلام” و“التنمية مقابل الإستقرار” والنتيجة واحدة: تجميد مطلب التحرر الحقيقي وتكريس الأمر الواقع لصالح الطرف الأقوى.
في الحالتين تتحول الحركات التحررية إلى سلطات إدارية فاقدة للقدرة على فرض مشروعها الوطني وتُستبدل شرعية الكفاح بشرعية التمويل والإعتراف الدولي.
البعد الأيديولوجي من هندسة الخرائط إلى هندسة الوعي:
لا يقتصر المشروع الأمريكي على هندسة الخرائط السياسية بل يتعداه إلى هندسة الوعي الجمعي للشعوب ويتم ذلك عبر
تصوير التمسك بالتحرر الكامل كتعنت أيديولوجي يهدد “الإستقرار الإقليمي” وشرعنة الحلول الناقصة تحت لافتة “الواقعية السياسية” وتوجيه الخطاب العام نحو مفاهيم الإقتصاد والتنمية بدل السيادة والتحرر وبهذه الطريقة تُعاد صياغة مفهوم “النجاح السياسي” في الوعي العام ليعني الإعتراف الدولي والمساعدات لا الحرية والسيادة إنها استراتيجية السيطرة عبر الإقناع والإغراء بدل القهر المباشر وهذا هو الوجه الحديث للإستعمار السياسي.
مقارنة بين التجربتين:
تكشف المقارنة بين التجربتين الفلسطينية والصحراوية أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حلّ الصراعات بقدر ما تسعى إلى ترويضها وإعادة إنتاجها في أشكال يمكن التحكم فيها.
فالمرحلية الأمريكية ليست جسرًا نحو الحرية بل هي قيدٌ مؤقت يتحول إلى دائم وما يبدو “خطوة أولى نحو الدولة” ينقلب إلى نهاية مؤجلة للتحرر.
لقد تغيّرت الإدارات من بوش إلى ترامب لكن جوهر المنهج لم يتغير “السلام مقابل التخلي عن الجوهر التحرري.”
إن مقاومة هذه العقلية تتطلب وعيًا استراتيجيًا يرفض الدخول في هندسة المراحل الملغومة ويعيد تعريف الواقعية على أساس الحقوق لا على أساس موازين القوة المفروضة.
فالمعركة الحقيقية اليوم ليست فقط على الأرض بل على الزمن السياسي واللغة التي يُصاغ بها المستقبل.
إنها لغة تبرر تحويل خرائط العالم والأمم والشعوب إلى فوضى عارمة الشرعية فيها للأقوى والمرجعية هي مصالح الدول الكبرى لا المواثيق الدولية.
وتظل الجزائر هي الهدف الأكبر لكلما يجري في أحزمتها من تكتيك ومناورة وتبقى هي مظلة الأمن الإستراتيجي للمغرب العربي ولدول الساحل والشمال الإفريقي بل وجنوب أوروبا والأمن الأورو متوسطي.
فالملف الصحراوي أصبح ملف أمن سيادي حيوي للمنطقة كلها.
وانتصار الحلف الصهيوني فيه يعني بداية انهيار دول الإقليم كله باسم الواقعية الترامبية.
عبّد الله ولد بونا
