القائمة الرئيسية

الصفحات

الطريق الوعر إلى الاستقلال


تدفّقت ردودُ فعل الصحراويين على ما يَرِد من نيويورك بين الغضب والتشاؤم والحذر فهذه انفعالاتٌ طبيعية ومشروعة غير أنّ مَن يعرف تموضع إداراتٍ أمريكية سابقة ومواقفَ أغلبية دول ما يُسمّى «مجموعة أصدقاء الصحراء الغربية» في مجلس الأمن—الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا وإسبانيا—لا يفاجئه المشهد؛ إذ إنّ معظم هذه العواصم أعلنت، صراحةً أو ضِمناً، انحيازاً يمسّ جوهر الحقّ الصحراوي. 

ويزيد المشهد تعقيداً أنّ «حامل القلم» لقرارات المجلس في هذا الملف (الولايات المتحدة) لطالما كانت له مواقفُ سياسية تُؤثّر في صياغة القرارات واتجاهها، على نحوٍ يجعل الخصومةَ والتحكيمَ متداخلين بصورةٍ مُربِكة.

من المهمّ التذكير بأنّ قرارات مجلس الأمن المتّصلة بالصحراء الغربية تصدر بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وهو فصلٌ يُعالج النزاعات بوسائل دبلوماسية—تفاوض، ووساطة، وتحكيم—على خلاف الفصل السابع الذي يُجيز أدوات الإلزام القسري. لذلك تظلّ لغةُ القرارات في هذا الملف حتى الان أقرب إلى الحثّ وطلبِ الحلول من فرض التنفيذ المُلزِم.

تاريخياً، سُجّلت قرارات أممية لافتة: القرار 379 (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1975) الذي دعا إلى عدم تنظيم «المسيرة الخضراء»، والقرار 380 (6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975) الذي ندّد بتنظيمها وطالب بسحب المشاركين من الإقليم، ثمّ سلسلة قرارات تُقرّ بحقّ تقرير المصير وتنظيم الاستفتاء مثل 621 (1988) و658 (1990) و690 (1991). ومع ذلك ظلّ التنفيذُ معلقاً نتيجة رفضِ النظام المغربي وانتهاكه لقرارات مجلس الأمن. هنا تتبدّى قاعدةٌ ثابتة وسط تبدّل الموازين: القضية الصحراوية قضيةُ تصفيةِ استعمارٍ باقيةٌ على جداول الأمم المتحدة، يُثبّتها أيضاً الرأيُ الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 1975 الذي رسّخ أولويةَ حقّ تقرير المصير على أيّ ادّعاءات تُقزّم إرادةَ الشعب الصحراوي.

يُذكّرنا مالك بن نبي بأنّ سياساتِ القوى العظمى امتدادٌ لنفسيّاتها التاريخية؛ فالأمم التي صاغت نفوذَها بروافدِ الهيمنة تميل إلى إعادة إنتاج منطقها القديم بأدواتٍ جديدة. لذلك لا يُعقَل افتراضُ أنّ أنظمةً استعمارية ستتنازل «أخلاقياً» عن مصالح رسّختْها بالقوة الناعمة والصلبة. الاستقلالُ والحرّية في التاريخ الحديث لم يُمنحا بقرارٍ مُريح ولا بعباراتٍ إنشائية؛ إنّما جاءا حصيلةَ صبرٍ استراتيجي، وتنظيمٍ راسخ، وتضحياتٍ محسوبة.

الواقعُ اليوم مُرّ: قد يُدفَع مجلس الأمن نحو صيغٍ جديدةٍ في صالحِ المحتلّ المغربي، وقد تتزايد الضغوط لقبول حلولٍ منقوصة. لكنّ هذا لا يُلغي بديهيّةَ الحقّ ولا يُسقطُ مركزيةَ الفاعليّة الداخلية: اتّساقُ المطلب، وحدةُ الخطاب، وبناءُ مؤسّساتٍ قويةٍ قادرةٍ على إدارة الزمن الطويل. نحن نعلم أنّ ثورتَنا ثورةٌ شعبيةٌ طويلةُ الأمد، وحربُنا حربُ أجيال؛ فصراعاتُ تصفية الاستعمار ليست سباقاتِ 100 متر، بل ماراتونٌ تاريخي يحسمه مَن يمتلك النفسَ الطويل، وحسنَ إدارة الموارد، واقتصادَ التعب، وذاكرةً لا تُرهقها السنوات.

حروبُ التحرير لم تكن يوماً مفروشةً بالورود: عاشت الجزائر حرباً قاسية انتهت باعترافٍ دوليّ واسع بالاستقلال بفضل مزج الكفاح السياسي والدبلوماسي مع ضغطٍ شعبيّ منضبط، وتكلفةٍ بشرية باهظة لم تُبدّد الهدف. وفي فيتنام امتدّت مقاومةٌ طويلة تداخل فيها الاستعمارُ مع الحرب الباردة، وحُسمت بصلابة الإرادة وتعدّد جبهات التأييد حتى انتصر الثوّار على إحدى أعتى القوى العالمية. أمّا في جنوب أفريقيا فدام نضالُ الشعب ضدّ نظام الفصل العنصري نحو ثمانيةِ عقود، تخلّلته مقاومةٌ مدنية وعسكرية، ومقاطعاتٌ دولية، وعقوبات، ومهارةٌ تفاوضية أنهت نظام الأبارتهايد.

ما المشترك؟ زمنٌ طويل، ووحدةٌ تنظيمية، وروايةٌ قانونيةٌ وأخلاقيةٌ واضحة، وتوثيقٌ مُتقن للانتهاكات، ودبلوماسيةٌ نشطة تستثمر كلّ نافذة من المحاكم الدولية إلى هيئات الأمم المتحدة والرأي العام العالمي.

لا تكفي شرعيةُ الحقّ بلا قدرةٍ على صيانته فعلينا أن نُشمّر عن سواعدنا ونبذل أقصى ما نستطيع لتحقيق أهدافنا.

ماذا على كلّ صحراوي وطنيّ يؤمن بحقّه وقضيته العادلة؟ علينا جميعاً الالتفافُ حول الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، الممثّلِ الشرعيّ والوحيد للشعب الصحراوي، وتجديدُ الثقةِ في قراراتها، وتمتينُ الصفوف، والمحافظةُ على معنوياتٍ عاليةٍ وثقةٍ بالنصر الحتمي.

نحن أمام طريقٍ وعر، لكنّ «الطريق» ليس قدراً أعمى. يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾. ما بين الابتلاء وبُشرى الصابرين مساحةُ عملٍ وعقلٍ، لا مساحةُ انتظارٍ سلبي.

قضيتُنا عادلةٌ ومشروعة، ونحن أصحابُ حقّ. وكما قال الشهيد الولي: «الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب أُعلنت اعتماداً على أشياء حتميّة الوقوع، وليس على أشياء موجودة بالفعل».

القضيةُ الصحراوية مهما تبدّلت موازين القوى تبقى في جوهرها قضيةَ تصفيةِ استعمارٍ وحقَّ تقريرِ مصير. القرارُ الدولي يتلوّن، لكن معيارَ العدالة واضح: شعبٌ صاحبُ أرضٍ وهويّةٍ وإرادة. ومن يتأمّل خرائطَ التحرّر في القرن العشرين يدرك أنّ الانتصار ليس ومضةً عابرة، بل خطٌّ طويل ترسمه وحدةُ الهدف، ونزاهةُ الوسيلة، ونَفَسُ الزمن.
بقلم : كمال فاضل ممثل جبهة البوليساريو باستراليا

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...