تبدو حالات القتل والتعذيب التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية والتي كشفت عنها منظمة "بتسليم" وحشية ومفزعة، لكنها في السياقات التاريخية لأساس وجود إسرائيل وممارساتها لم تكن صادمة أو مستغرَبة.
كانت الجرائم نهجا دائما لتجسيد الطابع الاستيطاني والإحلالي للكيان الإسرائيلي منذ 75 عاما، وقبل ذلك على يد العصابات الصهيونية. يصعب حصر تلك الجرائم أو توصيفها، وما يحصل في الحرب الإسرائيلية على غزة هو جرائم ممنهجة يحاكم فيها قادة إسرائيل بتهم جرائم حرب وإبادة، وما يجري في المعتقلات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين يعد امتدادا لهذه الحرب ولهذا النهج الذي يشبه العقيدة.
يصف الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس (8 أغسطس/آب الجاري) التقرير الذي نشره المركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم) تحت عنوان "أهلا بكم في الجحيم" بأنه "ليس مجرد تقرير عما يحدث في سجون إسرائيل؛ بل هو تقرير عن إسرائيل".
لا يعود ليفي إلى المسار التاريخي للجرائم الإسرائيلية الممنهجة في السجون وخارجها كجزء من العقيدة الصهيونية -وقد كتب كثيرا عن الجرائم في غزة- لكن يوصّف الحالة من جانب قانوني، باعتبارها في نظره نتاج السياسات الخاطئة والحالة الداخلية المزرية والخلل في أجهزة الدولة، وهي بالنسبة له تعبير عن "روح العصر في إسرائيل".
وعلى عكس ليفي، لم يركز الإعلام الإسرائيلي -اليميني في معظمه- على التقرير، وكان هناك تجاهل شبه تام لمضمونه، وبالتالي محاولة طمس متعمد للممارسات الوحشية التي تضمنها، وركزت بعض النقاشات الصارخة في عنصريتها فقط على سؤال هل يجوز ذلك مع "الإرهابيين"؟ وفق تعبيرهم".
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى بداية أغسطس/آب الجاري يقدر نادي الأسير الفلسطيني أن عدد الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية قد بلغ نحو 9900 فلسطيني، تعرض معظمهم لأشكال من التعذيب أو الانتهاكات النفسية أو الجسدية.
كان المشهد مفجعا لنقل مئات الأسرى الفلسطينيين من غزة في شاحنات وهم شبه عراة إلى مركز اعتقال "سدي تيمان"، الذي أقيم حصرا لاحتجاز أسرى غزة. وما يحصل داخل المعتقل يعد امتدادا لتلك الجريمة وفق الفقرة (ج) من المادة 3 من اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب التي تحظر "الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطّة بالكرامة".
يشير تقرير "بتسليم" إلى أن 60 معتقلا فلسطينيا قضوا بالسجون الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول- أي منذ عملية طوفان الأقصى- بينهم 36 معتقلا في سجن "سدي تيمان" جرّاء التعذيب الشديد، وهو الرقم المعلن من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وعلى سبيل المقارنة، قتل 9 سجناء خلال 20 عاما في سجن غوانتانامو الأميركي سيئ الصيت في خليج غوانتانامو بالساحل الجنوبي الشرقي لجمهورية كوبا، الذي افتتحته الولايات المتحدة عام 2002.
وصفت منظمة العفو الدولية مركز الاعتقال الأميركي الأشهر بكونه يجسد "همجية هذا العصر"، وبالمقارنة والقياس بات مركز اعتقال "سدي تيمان" الإسرائيلي جزءا أكبر من هذه الهمجية التي جسّدها سجن "غوانتانامو"، وكذلك معتقل "أبو غريب" في العراق.
وتؤكد المنظمة أن التعذيب الممنهج والعنف الجنسي ضد المعتقلين الفلسطينيين يعدان جرائم حرب، إذ تستخدم إسرائيل "قانون المقاتلين غير الشرعيين" أداة لاحتجاز الفلسطينيين تعسفيا إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة، في انتهاك صريح للقانون الدولي ولمبادئ حقوق الإنسان.
ووفق البيانات التي سمح جيش الاحتلال بنشرها، هناك نحو 700 أسير في سجن "سدي تيمان"، لكن تقديرات أخرى تشير إلى احتجاز أكثر من ألف معتقل هناك، وتحدثت تقارير حقوقية أيضا عن وجود آلاف المعتقلين.
وسواء في معتقل "سدي تيمان"- الأكثر وحشية- أو سجن كتسيعوت أو عوفر، تحولت السجون والمعتقلات الإسرائيلية إلى "مراكز للإساءة بسبب الرغبة في الانتقام" بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بحسب افتتاحية صحيفة هآرتس (8 أغسطس/آب) التي تشير أيضا إلى أن "الأمر لم يكن أخطاء أو حوادث عرضية واستثنائية، بل إن التعذيب أصبح سياسة أثناء الحرب، وحتى قبل اندلاعها".
وتشير التقارير إلى أنه بعد عملية "طوفان الأقصى" زات حدة الاعتقالات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزادت أيضا وحشية عمليات التعذيب التي أسفرت عن استشهاد العشرات، وبات نظام السجون الإسرائيلي يعمل كمنشأة لإساءة معاملة السجناء، فالمعتقلات باتت عمليا ساحة حرب أخرى بنظر إسرائيل، وخصوصا اليمين المتطرف.
وكان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قد دعا إلى "إعدام المعتقلين الفلسطينيين عبر إطلاق النار على رؤوسهم، بدلًا من تقديم المزيد من الطعام إليهم"، وقد منح هذا التصريح العنصري الفج حراس السجن والجنود الضوء الأخضر لفعل ما يريدون بالسجناء، مع الإفلات من العقاب، وفق صحيفة هآرتس.
يعد تصريح بن غفير متماثلا مع ما قاله وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يوم 5 أغسطس/آب "إن موت مليوني فلسطيني في قطاع غزة جوعا قد يكون عادلا وأخلاقيا لإعادة الأسرى الإسرائيليين".
يتضمن تقرير منظمة بتسليم 94 صفحة، ويستند على 55 شهادة فلسطينية، 30 منها لأسرى من الضفة الغربية و21 من غزة و4 من عرب الداخل، ويشير إلى أن "كل من يدخل أبواب هذا الحيز، محكوم بأشد الألم والمعاناة المتعمدين وبلا توقف، وهو حيز يشغل عمليا وظيفة معسكر تعذيب".
واستنادا إلى الإفادات التي أوردها التقرير يتضح واقع "تحكمه سياسة هيكلية وممنهجة قوامها التنكيل والتعذيب المستمرين لكافة الأسرى الفلسطينيين"، ويشمل ذلك -حسب التقرير- العنف المتكرر القاسي والتعسفي والاعتداء الجنسي (بما فيها جرائم اغتصاب موثقة) والإهانة والتحقير والتجويع المتعمد، وفرض ظروف نظافة صحية متردية، والحرمان من النوم، وكذلك منع ممارسة العبادة، وفرض عقوبات على ممارستها، ومصادرة جميع الأغراض المشتركة والشخصية، فضلا عن منع العلاج الطبي المناسب بما يؤدي أحيانا إلى بتر للأعضاء.
ويشدد التقرير على أن هذه الانتهاكات ترقى إلى حد ارتكاب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وهي تتعارض مع القانون الدولي، وخصوصا اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب التي تؤكد على:
يُحظر أن تقترف الدولة الحاجزة أي فعل أو إهمال غير مشروع يسبب موت أسير في عهدتها، ويعتبر انتهاكا جسيما لهذه الاتفاقية.
لا يجوز تعريض أي أسير حرب للتشويه البدني أو التجارب الطبية أو العلمية من أي نوع كان مما لا تبرره المعالجة الطبية للأسير المعني أو لا يكون في مصلحته.
يحب حماية أسرى الحرب ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير.
حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب.
يقارن متابعون بين الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين وبين المعاملة الإنسانية التي تلقاها الأسرى والمحتجزون لدى المقاومة في غزة، والتي أبرزتها الصور والفيديوهات وشهادات من تم إطلاقهم، منها الرسالة الشهيرة للأسيرة يوخباد ليفشتس التي أعربت فيها عن امتنانها لعناصر وقادة القسّام على حسن المعاملة معها خلال فترة أسرها، وكذلك دانييل ألوني وابنتها إميليا المفرج عنهما بالدفعة الأولى لتبادل الأسرى، وقد كتبت في رسالة لمقاتلي القسام...
تسليم كتائب القسام الدفعة الرابعة من الأسرى الإسرائيليين في غزة صور خاصة بالجزيرة
الأسرى الإسرائيليون الذين أطلق سراحهم أكدوا المعاملة الإنسانية التي تلقوها (الجزيرة)
تقول الرسالة: "للجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غدا، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إميليا، كنتم مثل الأبوين.. شكرا شكرا شكرا على الساعات الكثيرة التي كنتم فيها كالمربية.. اعتبرت ابنتي نفسها ملكة في غزة..".
في المقابل تصف الأسيرة الفلسطينية مريم سلهيب (21 سنة) ما حصل لها بقولها: "أصعدوني في حافلة.. وصعد من خلفي ثمانية جنود وشتموني، ضربني أحدهم بقوة على رأسي ثم على كتفي، وبعد عشر دقائق وصلنا إلى معسكر لا أعرفه، لَكَمَني أحد الجنود بقوة على وجهي..".
ويكشف هذا الاختلاف في معاملة الأسرى عن الفوارق الأخلاقية والإنسانية في التعامل، الذي يستند في الحالة الإسرائيلية التي كشف عنها تقرير "بتسليم" إلى روح تشفٍّ وانتقام وهو "توثيق لوجه إسرائيل 2024 وروحها ومثالها"، وفق تعبير صحيفة هآرتس.
المصدر : الجزيرة