يمكن مؤاخذة النخبة المعاصرة باختلاف أسمائها : النخبة، الطلائع الثورية ، الانتلجنسيا ، المثقفين والمفكرين على المستوى المحلي والعالمي , واتهامها بالتخلي عن الشعوب وخيانةها وعدم إنتاج وعي حقيقي للمرحلة, والسماح بتفشي التفاهة، وتغليب خطاب البلاغة، على خطاب البراهين والأدلة والحجج، , وعدم القيام بدورها ومهامها في كشف أسرار المؤامرة الكبرى, لما يسمى المعاهدات الأبراهامية، على سبيل المثال لا الحصر, وذلك ناتج عن ثلاثة أسباب :
أما السبب الأول فهو شح المعلومات حولها، لأنها أعدت في مختبرات سرية ، والثاني: شكلها الروحي الذي يبدو متجاوزا من أول وهلة باعتباره مفهوما ميتافيزيقيا لا يؤثر في الصراع الإجتماعي والوجود الاجتماعي وهو حقيقة عكس ذلك تماما .
أما السبب الثالث فهو كون ما يسمى بالنخبة فصلت الفكر عن الواقع، وفصل الصراع السياسي عن جوهره الفكري، وأصبحت تفتقر إلى الطرح العلمي الثوري المباشر والصادق الذي يمكنها من توعية الجماهير وتنظيمها, وأصبح الصراع السياسي ينتهي عند سقف الصراع الذي رسمته القوى الإمبريالية نفسها حول تأويل المبادئ القانونية والمفاهيم الحقوقية المجردة في أحسن الأحوال وفي غير ذلك صراع بمفاهيم أيديولوجية دينية ، وفي كلا الحالتين لن تجد هذه النخبة التعبير الحقيقي والمباشر عن صراع الإنسان ضد الإنسان مادامت تبتعد بالفكر عن مضمونه الاجتماعي الواقعي. وهذا يعني أساسا ،حاجتنا الملحة على طرح فكري،علمي، واقعي، و ذاتي يعبر عن وجودنا الاجتماعي في شروطنا التاريخية الحقيقية ،من أجل إعادة ربط النخبة بهموم وآمال الجماهير. يعني عملية ذاتية للنخبة تتمثل في إصلاحها لذاتها، والعودة بها إلى تحمل مسؤولياتها ،ولا يمكن هذا إلا بتخلصها من ضغط الواقع وهو مفهوم طالما تكلمنا عن تعاريفه عندما عالجنا قضية النخبة والثورة.
إن الدارس لتاريخ الفكر الإنساني في مجمله، لا بد أن يسلم بحقيقتين ملازمتين للفكر
الأولى ـ أن للفكر في مجمله مضمونا للواقع الإجتماعي، سواء كان هذا الفكر علميا وسواء كان غير ذلك
الثانية : هي أن كل حركة فكرية كبيرة تنتهي إلى إنتاج قانون أو عقود إجتماعية أو التزامات.
و الحقيقتين السالفتين تبرزان الجوهر الإيديولوجي للفكر خصوصا حينما نتكلم عن أشكال الوعي الإجتماعي ، لأن الفكر في الحقيقة، ينقسم إلى العلوم التي تعتمد اللغة الكمية والتي لا تقبل الجدل ولا الإختلاف ولا تظهر فيها المذاهب ، وتعرف بموضوع بحثها ،كأن نقول الجيولوجيا ونعرفه بعلم دراسة طبقات الأرض، ولكن أشكال الوعي الاجتماعي كالفلسفة والدين والفنون التشكيلية والأدبية .... إلخ فهي تعرف بوظيفتها الاجتماعية
وحينما نتكلم عن الوظيفة الاجتماعية نصبح ملزمين بالكلام عن الوظيفة الإيديولوجية، رغم أنه لا يمكن التسليم بأن الوظيفة الإيديولوجية تغطي كل جوهر هذه المعارف كما يجدر بنا أن نشير إلى خصوصية أو نوعية الفلسفة باعتبارها ،شكل نوعي من أشكال الوعي الاجتماعي وباعتبارها كانت تضم كل العلوم في موضوع بحثها، رغم أن استقلال العلوم عنها ،يفيدنا كثيرا عند محاولة تعريفها.
ونشير أيضا إلى خصوصية الدين باعتبار النقاش فيه محرم ونقاش الوظيفة الأيديولوجية محرم بقداسة الدين وكثيرا ما علمنا التاريخ أن وظيفة الدين الأيديولوجية جرت الإنسانية إلى حروب ومآسي و كان لا بد من هذه التوطئة و من رسم حدود هذا المنهج الفكري من أجل بحث هذه الإيديولوجية الصهيونية الجديدة الجديدة المسماة بالإبراهامية
والأبراهامية ظهرت إرهاصاتها كفكر منذ منتصف القرن العشرين ولكنها اتخذت شكل النظرة الأيديولوجية الأمريكية إلى تمكين أداتها ( إسرائيل) من الإندماج في الشرق الأوسط على حساب سيادة شعوب المنطقة على أراضيها وثرواتها، ومحاولة محو عنها التوصيف القانوني الذي يصفها بـ الاحتلال الإجرامي الصهيوني, و محو عنها كذلك وصف، الجسم الغريب السرطاني في المنطقة,من خلال خلق إيديولوجية مبنية على أساطير تجمع بين تحريف الإسلام والمسيحية واليهودية ،تحت خدعة توحيد الديانات من أجل السلام, بينما السلام لا يبنى على توحيد الأساطير وإنما على إحترام الحق وحينما تدرس الواقع العيني والصراع الدائر في منطقة الشام ، وتحديدا الجرائم التي ترتكب في حق شعبنا الفلسطيني و تفهم توجه الموقعين على على اتفاقيات الأبراهامية من العرب المسلمين ، فلن تجد مشقة في استيعاب الوظيفة الإيديولوجية لما يسمى الأبراهامية وهي محاولة توسيع دائرة الصهيونية المؤسسة على أساطير من الديانة اليهودية وليس لها علاقة مع اليهودية لكي تصبح مؤسسة على أساطير جديدة من اليهودية والإسلام والمسيحية وليس لها علاقة بهذه الأديان ولا بنبي الله إبراهيم
إذن على المستوى الفكري والروحي الخالص فهي أداة ايديولوجية لإنهاء الصراع والحفاظ على جوهر الظلم والهيمنة في هذا الصراع, إنهاء فكر المقاومة، والحفاظ على أسبابه وهذا التناقض هو ما جعل الإيديولوجية الأبراهامية تتناقض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
بمعنى أن تصبح الإبراهيمية هي الصرح الفكري والروحي التي تتحد فيه الصهيوعربية مع الصهيونية العالمية
و ليس السبب في تلك الحروب، مجرد أن هؤلاء مسلمون وهؤلاء يهود أو مسيحيون ولكن الأسباب الحقيقية للحرب هي احتلال الأرض ومحاولة اقتلاع شعب حر من أرضه وخيراته بل وإبادته وتشريده..
والأهداف الإستراتيجية هي ابتلاع عشر دول التي يمر منها حسب زعمهم مسار نبي الله ابراهيم.
ويمول صندوق النقد الدولي مشروعا سياحيا إيديولوجيا استعماريا ضخما يمر من اورفا بتركيا مكان ازدياد نبي الله إبراهيم (دائما حسب زعمهم إلى مكان دفنه في الخليل بمسافة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر ومرورا بأكثر من عشر دول ، ومحيطا بجزيرة العرب و عبر الممرات البحرية الإستراتيجية
إذن الأبراهامية هي ايديولوجية توسعية استعمارية تمييزية تتكامل نظرتها الإيديولوجية مع الالتزامات التي وقعها المنتمين لها بدون استشارة الشعوب ( أي مؤامرة)، ومع مخططاتها الإقتصادية التي لا تحترم سيادة الشعوب على ثرواتها ، ولا خصوصية هذه الشعوب. وهي النسخة الجديدة للصهيونية، التي تضم بعض الأوليغارشيات العربية وبعض المتطرفين الإنجيليين ومركزية النظام العالمي الغربي.
وهنا نواجه سؤال يطرح نفسه بشدة، هل غيرت الصهيونية نسختها القديمة بسبب فشلها؟ أم هي خطتها الجديدة للهيمنة على جزء كبير من البشرية؟ أم هي مجرد تمدد الفكر الصهيوني العالمي وتجديد أدواته في إطار الصراع التاريخي للأقطاب ؟ أو محاولة منع صعود أقطاب جديدة أو حتى منع الإندحار الذي يعانيه النظام العالمي القطبي؟؟؟
وهذا السؤال مركب من عدة عناصر تحتاج كل منها إلى دراسة خاصة, لكنها بالفعل تجتمع كلها في جواب واحد وهو ان هذه المؤامرة الصهيونية تستهدف سيادة الشعوب وتستعبدها ،وعلى النخبة إيجاد المفاهيم الحقيقية لنصرة شعوبها
من اجل أن يعلن النظام في المغرب الأقصى انضمامه إلى معاهدات النسخة الجديدة من الصهيونية: الأبراهامية تم مكافأته بالتغريدة المشهورة للرئيس الأمريكي السابق معترفا فيها بمغربية الصحراء منتهكا أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي وهو مبدأ السيادة الدائمة للشعوب على أراضيها وثرواتها الطبيعية في مضمون القرارين الدوليين :
قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1803/1962. و قرار إعلان مبادئ القانون الدولي 2625/1970 بينما يعترف القانون الدولي بالسيادة الدائمة للشعب الصحراوي على أرضه،وتمثيله لنفسه عبر الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و واد الذهب.
إذن نخلص وبكل وضوح إلى التعارض الواضح بين جوهر الأبراهامية ومبادئ القانون الدولي، إذ تهدد على الأقل سيادة الشعب الصحراوي والفلسطيني وعشر شعوب أخرى يمر ما يسمى بالمسار الإبراهيمي منها وهذا تهديد خطير للأمن والسلم الدوليين ، بدأت تظهر نتائجها مباشرة بعد توقيع معاهدات الإبراهامية حيث اندلعت حرب التحرير في نسختها الثانية بين الشعب الصحراوي والاحتلال المغربي وبين الشعب الفلسطيني والاحتلال الصهيوني، وتوسعت حتى شملت العراق ولبنان واليمن، ولن تكون سوريا والأردن ومصر وباقي دول الجوار في منأى عنها, نظرا للترابط المصيري بين كل هذه الشعوب وكل هذا نتيجة انتهاك القانون الدولي الذي أعد جوهره تحديدا لحفظ السلم والأمن الدوليين.
إذن من نتائج الأبراهامية ، الزج بالعالم في دوامة من الحروب والعنف تهدف إلى إبادة الشعوب واقتلاعها من الأرض لصالح هذا التحالف الصهيوني الذي يمثل اقلية قليلة جدا من سكان العالم تمكنت من نهب غالبية ثروات العالم
لا شك ان أغلبية الجماهير واعية ولو بالتجربة البسيطة بخطر إتفاقيات الأبراهامية، ولكن يحزنني عدم تداول النخبة في كل قطر ومنطقة لبحث هذه الإيديولوجية الصهيونية الاستعمارية التمييزية المهيمنة على مقدرات الشعوب واستنهاض مقاومة الشعوب وحمايتها وإذكاء وعيها للحفاظ على سيادتها واستقلاليتها وتكريس حفاظها على هويتها ومهامها الحضارية وتنمية نفسها بنفسها.
المجد والخلود دائما وأبدا لشهدائنا الأبرار
بقلم د . حسان ميليد علي بوليساريو