من الاهمية بمكان تسليط الضوء على واقع طليعتنا ورائدة كفاحنا، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في افق تجديد هياكل التنظيم السياسي لتحديد مكامن نجاحاتها واخفاقاتها، واستحضار مآثر الشهداء في شهر الشهداء، وفي مقدمتهم مفجر الثورة وقائدها، وقدوتها في الشجاعة والتضحية، الشهيد الولي مصطفى السيد رحمه الله، الذي يصادف تاريخ استشهاده في ساحة الشرف مقبلا غير مدبرا في معركة غيرت ميزان القوة لصالح صاحب الحق، الشعب الصحراوي، في حرب غير متكافئة شنها النظام الملكي في المغرب ونظام ولد داداه آنذاك في موريتانيا على هذا الشعب الأبي، ورسمت معالم انتصارات توالت عسكريا ودبلوماسيا.
لقد ولدت الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب، بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، من رحم الشعب الصحراوي، كنتاج لمقاومة باسلة طويلة ضد الاستعمار والاطماع الاجنبية، لتأخذ على عاتقها تحقيق تطلعات هذا الشعب في الحرية والاستقلال. وقد راهنت الثورة في نجاحها على تلاحم الشعب، استعداده للتضحية وارادته وايمانه بالنصر باعتبار ان الانسان هو مصدر القوة الاول والشرط الأساسي للانتصار، والذي بتوفره ستتوفر تلقائيا جميع الشروط المعنوية والمادية الاخرى. طبعا، التحديات حينها لم تكن سهلة، فبالإضافة الى مخلفات الجهل والقبلية المنتشرة في اوساط المجتمع، هناك أطماع توسعية للجيران من الشمال والجنوب مدعومة من قوى عظمى لعرقلة تصفية الاستعمار من الصحراء الغربية واجهاض الثورة وعزلها عن العالم الخارجي.
من بين الخطوات التي غيرت مجرى التاريخ، بحيث استنهضت الضمير الوطني وزرعت الأمل وعززت ثقة الشعب في نفسه وجعلت الطليعة تنال شرعية تمثيله، كان قرار إعلان الكفاح المسلح يوم 20 ماي 1973، الذي جاء فقط بعد 10 ايام من تأسيس الجبهة، كأنسب خيار لفرض على إسبانيا التعجيل بالرحيل وأقوى رد على اطماع الجيران ومن يقف وراءهم. وقد تعزز خيار الكفاح المسلح بإعلان الوحدة الوطنية، الذي أظهر التفاف الشعب الصحراوي حول طليعته الصدامية، جبهة البوليساريو، وقيام الدولة الصحراوية، الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، كتجسيد لإرادة هذا الشعب في العيش الحر الكريم. وبالإضافة الى الانتصارات العسكرية المتتالية التي كسرت التحالف الغازي بعد انسحاب موريتانيا من الحرب واعترافها بالدولة الصحراوية وفارق التفوق الذي سجله المقاتلون الصحراويون على الجيش المغربي بعد ذلك، والتأييد الدولي الواسع لحق شعبنا المشروع الذي توج بتبوء الدولة الصحراوية لعضويتها في المنتظم الافريقي والاعترافات الواسعة بها في جميع القارات، فإن بناء القوة الذاتية كان مركز جهد الطليعة من اجل صنع الانسان النوعي والمثالي عبر برامج التوعية والثقافة واقحام القواعد في صنع القرارات وقيادة نفسها.
بالتأكيد ان كل هذه المكاسب لم تأت هكذا بالصدفة، بل كانت نتيجة عبقرية من فجر هذه الثورة ورؤيته الواضحة للواقع ومتطلبات تحقيق الهدف التي يأتي في أولها اسباب النجاح المتمثلة في مثالية وقدوة الطليعة وقدرتها على الابداع في تحقيق المكاسب وصيانتها. ومن بين أسرار نجاح الطليعة كذلك انفتاحها الواسع على القاعدة، باعتبارها مخبر لفحص كل الفعل الوطني وصنع القرارات الصحيحة من خلال الندوات السياسية والملتقيات التي شكلت مدرسة للتربية السياسية والفكرية وفي التقييم، النقد والتقويم وإشاعة قيم التواضع والمثالية. وقد ساعد على هذا الانفتاح انشاء منذ الوهلة منظمات جماهيرية كروافد من أجل توسيع المشاركة الشعبية ونظرا للدور البارز للفئات الفاعلة في المجتمع كالشباب، النساء والعمال في البناء الحضاري للشعوب والأمم.
للأسف، بدأ كل هذا يتراجع مع وقف اطلاق النار سنة 1991، وبعد ان سمحت الطليعة بالحكم على نفسها بالموت في المؤتمر الثامن بتكريس القبلية الذي ظل سائرا الى آخر مؤتمراتنا، لا قيم ولا مبادئ ولا أهداف واضحة، بحيث اصبح الرأس حمل ثقيل على حساب جسم الطليعة الذي انهكته السلوكيات المشينة، فحلّ التشريف والسلطة محل المثالية والتكليف وتناسينا اننا لازلنا لم نحقق هدفنا في تحرير ارضنا من الغزاة المغاربة، فهذا رئيس او وزير وذلك والي او مدير او سفير، وهذا لديه الحصانة وذلك فوق القانون، والميزانيات والمفاضلة، الثراء الفاحش، وانتشار الفساد ونهب المال العام دون حسيب ولا رقيب. اما الملتقيات والندوات التي كنا نراجع فيها برامجنا وذواتنا ونصحح فيها اخطائنا ونرسم فيها خططنا فحدث ولا حرج. والغريب في الأمر أن اغلب ادوات الطليعة الحالية هي نفسها التي كانت قائمة، مما يزيد من القلق بشان صعوبة عملية التجديد مستقبلا.
لا أظن أن اليوم هناك صحراوي لا يعي شراسة معركتنا مع العدو الغازي، خاصة بعد استئناف الكفاح المسلح، وحجم تحدياتها وتعقيدات الظروف التي نمر بها، وما تتطلبه من حشد للطاقات والتضحيات الجسام للانتصار فيها. وفي هذا الاطار، فإن اول ما يحضر الى الاذهان هي الطليعة التي تقود هذه المعركة، قوتها وتماسكها وقدرتها على التجديد في الأدوات والرؤية والتفكير، ومدى تحليها بالقيم والمبادئ التي تمكن من تقليص الهوة بينها وقواعدها. كان من المفروض أن يكون المؤتمر السادس عشر مفصلي في مراجعة شاملة للطليعة؛ ادوات، أداء، خطاب سياسي وأسلوب عمل، لكن حاجة البعض في نفسوهم حالت دون ذلك، مما فاقم من تدهور الوضع وزاد من عدم رضى الرأي العام.
إن استئناف الكفاح المسلح كان مطلبا شعبيا، ويسجل للقيادة السياسية جرأتها في اتخاذ هذا القرار، ولاشك ان الهدف الأساسي من وراء هذا المطلب هو إنقاذ قوتنا الذاتية التي دمرتها ليالي وايام الانتظار الطويلة دون جدوى. إن مسألة تقوية الذات تتطلب اكثر من مؤتمر، فأول شيء هو الرجوع إلى روح القيم الاولى التي تأسست عليها طليعتنا الصدامية واولها الثقة في الإنسان الصحراوي للنهوض بواقعه، ولعل عقد ندوات وملتقيات مفتوحة وخلق لها اجواء من نكران الذات واعلاء المصلحة العامة على مصالح الأشخاص من شأنها ان تنقذ الوضع بشرط الالتزام بتطبيق نتائج نقاشاتها.
بقلم: الديش محمد الصالح