همسة اليوم!
اليوم ستكون " الهمسة " الثانية , المرتبطة بدروس , علقت بذاكرتي من سنوات الدراسة .
في السنة الثانية من سنوات تحضيري لرسالة الدكتوراه , في أحد أيام موسكو الباردة , كنا مجموعة من شباب و شابات رسائل الدكتوراه , و كنا خليطآ من مختلف الملل و النحل .
كان الروس يشكلون 70 % من هذا الخليط , و الباقي موزعآ علي " شذاد " الآفاق و طلبة العلم من كل أصقاع الكون و كنت واحدآ منهم .
دخل الأستاذ لقاعة الدرس , نزع معطفه الشتوي و رتب شعر رأسه و قال , درس اليوم هو " القناعات الثابتة و القناعات المتغيرة " .
"....بما أن الدرس اليوم يخص العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة , و بما أن المادة , هي فلسفة الأديان , سنقسم درس اليوم علي حصتين و حصة ثالثة , ستكون مخصصة للنتيجة التي سنخرج بها , بعد " خلط " هذين المفهومين " المتناقضين....و علي فكرة , التناقض , يمس ظاهر هذين المفهومين فقط , و لكن في الجوهر , ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما .
في الدين هناك ثوابت و هناك متغييرات و في السياسة , هناك ثوابت و هناك متغييرات..." .
لاحظنا بأن أستاذنا , يبتسم , عند المرور علي بعض الأفكار و المفاهيم , و أنا شخصيآ , كنت أفهم سبب إبتسامته .
سبب هذه الإبتسامه الساحرة , كان يعود لسبب بسيط , و هو أن المجموعة البشرية الجالسة أمامه , كان فيها المسيحي و البوذي و اليهودي و المسلم و الملحد و إلي أبوه و ألي بلا بو .
في حديثه عن " القناعات " السياسية , كان يتكلم بوضوح و بصوت جهوري....قال " لا تصدقوا بأن السياسة , هي فن الممكن , هذه عبارة , أخذت من وقتنا أكثر مما تستحق , السياسة , يا سادة , هي من يستطيع بسلاحه أو بماله أو بعقله فرظ الممكن...." .
صمت في القاعة .
لقد كسر هذا الأستاذ فى 10 ثواني , كل ما تعلمناه في 30 سنة .
لاحظ , صاحبنا , بأن " القاعة " , أصيبت في مقتل .
قال , تعالوا لننظر في الثابت و في المتحول في الدين ( عندما كان يتحدث في الدين , كان يتحدث بنبرة هادئة و يحاول إيصال الفكرة , أحيانآ تلميحآ و أحيانآ تصريحآ ) .
" الدين , يا شباب , حجرة صونية , تيموم غير قابلة للتشكل و إعادة الفك و التركيب....أنت يا إما مؤمننآ , يا إما غير مؤمن...ورجائي , بأن لا تخلطوا بين التدين و الإيمان....التدين , علاقة الإنسان و نظرته و فهمه للخالق و للوجود و هو مرتبط بالموروثين الديني و الإجتماعي عند كل أمة و عند كل دين , أما الإيمان فهو تلك العلاقة المباشرة بين العبد و خالقه , و هي لا تحتاج لوسيط....و عليه , فإن الجزء الذي سناخذ معنا الآن من هذه المقدمة , هو كلمة واحدة " الثابت "....لا تنسوا هذا المصطلح .
نظر الأستاذ للطلاب في القاعة , و قال , سنتكلم الآن عن الثابت و المتحول في السياسة , و نصيحتي لكم , أن لا تدخلوا عالم السياسة , ليس لأنها " قذرة " بطبيعتها و إنما لأنكم , أضعتم أعماركم في البحث عن بدائل لها .
" في الحب و في الحرب كل شيء مباح....في السياسة , كذلك كل شيء مباح....الغير مباح في السياسة , هو فقط الشيء الغير قادر عليه....الثابت , في السياسة هي القناعات السياسية الصلبة , و هي في الغالب مرتبطة بدين أو بوجدان أو بروح شعب من الشعوب , أو أمة من الأمم أو بشخص من الأشخاص , و هي نتاج معتقد ديني أو سياسي , و محددة بمجال " حيوي " تاريخي و جغرافي و عقائدي..." .
إذا أردنا ترجمة ما قاله الأستاذ من اللغة الروسية للهجة الحسانية , فهو " إلي إموت على جهة وحدة , ألا لحسيرة " .
في السياسة , الثوابت قليلة و في الدين المتغيرات قليلة .
متغييرات الدين , قد تمس الفقه , قد " تدور " بالشرع , و لكن لا يمكنها الحديث في العقيدة....العقيدة , حجرة " صونية , تيموم , غير قابلة للتشكل أو للفك أو للتركيب.
نظر الأستاذ مرة أخري للقاعة الصامتة , من المقدمة الثانية , رجائي , لا تنسوا عبارة " المتغير " .
لقد حاولت العبور بسفينة هذا اليوم , دون المساس بعواطف أو بمشاعر , هذه الوجوه الكريمة .
" بقى من وقت هذه الحصة ربع ساعة , تعالوا لننظر في " ثوابتنا " و في " متغييراتنا "....الآن , دعوا الدين و السياسة جانبآ....هذا درس , مفروضآ علينا في المقرر الدراسي , و لا مناص من الخوض فيه....الثابت الوحيد يا أصدقائي , و إتجه للسبورة و كتب عليها بخط واضح كبير....الثابت , هو الضمير .
الباقي كله سيرهقكم .
خذوا من الدين , إلي إسلكم من النار و خذوا من السياسة إلي إسلكم من الفقر و لكن يجب تغليفهما بغلاف جميل و قوي و ثابت , إسمه الضمير .
نحن , الصحراوييون , لا خلاف بيننا فيما يخص الدين .
خلافنا , في السياسة .
ماهي ثوابتنا....ماهي متغييراتنا .
ماهي " المباديء " و المسلمات و المثل و القيم التي يجب أن لا نحيد عنها و ماهي " المباديء " و المثل و المسلمات و القيم التى عفي عليها الزمن و أصبحت , حكمها كحكم الخمر في الشريعة ....مضارها , أكثر من منافعها....
أتمنى , أن لا تتحول إختلافاتنا إلى خلاف .
الخلاف , سنة من سنن الكون و ناموس من نوامسه و لا يفسد للود قضية.....الإختلاف , هو خسارة الدارين , و خصوصآ , دار الوطن .
نريد سياسة " ميدومة " بالضمير , و معجونة بدماء و أرواح رجال غادرونا و لن يعودوا , و لكنهم , تركوا لنا ما إن تمسكنا به من بعدهم , لن نضلوا .
خطهم , الذي إستشهدوا عليه و الوطن .
نريد سياسة بضمير .
أو يالللللالي , موعرها .
د : بيبات أبحمد .