القائمة الرئيسية

الصفحات


خرج يتزعم جمعا غفيرا في تظاهرة رافضة للاحتلال المغربي كانت تجوب مختلف أحياء العيون المحتلة في إحدى أمسيات الغضب التي دأب الصحراويون على تنظيمها في كل مرة ... الأعلام خفاقة والشعارات تترآى عن بعد وقد كتبت بالخط العريض، وأصوات تملأ شوارع وأزقة المدينة تلعن الغاشم وتطالبه بالجلاء ... لم يتوقع المعتدون يوما أن هذه المدينة الساحلية كغيرها من المدن الصحراوية تنام على فوهة بركان لا يطيب مع هديره المقام لأي غاصب كان ... بركان بدأت شرارته تتوهج في الأفق، وحممه تتدفق عبر المسلك والمجاري تجفف الدنس ... حرارته لفحت من كان في مراكز القرار حينها من المغاربة، وحركت المخزن بكل أدوات إطفائه على مدى ساعات من المد والجزر، احتدم الصراع فيها بين فلوله المدججة وبين مقاومين عزلا تدفعهم إرادة الحياة الحرة الكريمة إلى حيث لا يكدر صفو عيشهم الدخلاء ... رائحة الموت تشتم من حين لآخر والمطاردة في كل مكان والاعتقال طال الكثيرين، وكان على رأسهم ذلك الشيخ الشهم الذي كان يتقدم ذلك الحشد الهائل، وقد بدا منذ أول وهلة وبحماسه الفياض أنه من المشرفين والمنظمين لتلك المظاهرة العارمة ... لمحته العيون الحاقدة وكان أول من تم اختطافه، وانتهى به المطاف في وجهة تبين في ما بعد أنها سجن رهيب بالتراب المغربي اسمه آكدز ... وقبل آكدز السئ الذكر كان أبو المتظاهرين يعرف بفطرته الحسانية وحسه البدوي أربعة "أشوار"، وكان يسير على "شور" لا كتك الاشوار المعروفة هو ومن معه ... وبين الواقع والخيال هناك رؤية قد تكون حقيقة وقد تكون حلما يراود تحقيقه من يمعن النظر في اتجاه معين ... عين المرء لا تكذب عند التركيز، وتخيله هو حدس لآفاق واعدة ... وفي أي اتجاه هناك فسحة للتأمل قد يرى فيها المرء عن بعد أو عن قرب كل التفاصيل التي تهمه، مثلما قد يحسها مع الوقت ويشعر بأهميتها عندما تتبلور في خياله، ولأهمية ذلك الشور، كان كل من ينشده يدفع ثمن التركيز عليه بالوقوع في الكثير من المطبات التي يختلقها نوع عدواني من بني البشر، ولا تعدو كونها مشقة من مشقات ذلك الطريق الصعب والمتعرج الذي يستسهله الصبورون والمؤمنون بحتمية الوصول ... طريق كان ومازال المضي فيه تتخلله متاعب واكراهات قد تكون قاتلة، وقد يتعثر المرء بسببها ويكبو، وقد يتغلب عليها بعزمه ويتفادى الوقوع ... يمعن ذاك الشيخ نظره في أفق بنفسجي داخله ضياء بدأ يخفت، وشابه سواد بدأ يتسلل مع حركة ما تبقى من قرص الشمس وهو يختفي ببطء مخلفا أكثر من علامة استفهام، يولي عبد الصمد وجهه نحو الشرق في التفاتة متأنية كمن يأمل في إطلالة فجر عاجل يكفل لكل مظلوم حالم نصيبه من النور ... وفي مساحة من مدى البصر تعززت آمال عبد الصمد وأحلامه برؤية نجم بدا يتوهج بين نجوم كثيرة ملأت كبد السماء، وعرف أنه هو الشور الذي ينشده أبناء جلدته في عتمة ذلك الليل البهيم الذي حل جائرا يكسو بؤرة ما فتئت تعرف النور ... وعرف أن الإيمان الراسخ هو مخلصه من عثرات الشك والتردد، ومن كل أسباب الخنوع والاستسلام لتلك الأشباح والخفافيش التي تخاف ضوء الصباح .

انتهى عبد الصمد بسبب هذا الشور إلى واقع كان كله سواد في سواد، ومأساة في مأساة، والحركة فيه لا تصدر إلا صوت الأغلال والأصفاد، والحياة فيه ملونة بكل أنواع التنكيل ووقع السياط، لكنه وبين أربعة جدران يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعتز بما يمليه ضميره الحي من رجولة فذة تؤثر حياة الشرف وتقدس المبادئ وتموت عليها مهما كلف الثمن ... في الضيق ركن ذلك الشيخ الذي اشتعل رأسه شيبا، وزادت تجاعيد وجهه التي لم تشفع له أمام جلاد متعجرف لا يعرف التمييز بين الأشياء، وكل ما يعرفه هو أنه مجرد أداة في يد نظام ظالم ... جلس عبد الصمد صابرا مكابرا بجراح وكدمات التعذيب ... وفي الظلام الدامس لم يعد أبو المتظاهرين يستذكر ناحية الشرق من الغرب، ولا ناحية الشمال من الجنوب، وكلما التفت يمينا أو شمالا، إلى الأمام أو إلى الخلف، إلى الأعلى أو إلى الأسفل، لا يرى إلا سوادا قاتما وكأنما عيناه اقتلعتا ... شك في ذلك وتحسسهما وأخذ يرمش ليتأكد من وجودهما، وإذا بهما لازالتا في مكانهما تحدقان دون فائدة ... عرف أن البصر في وضعه لا يجدي نفعا، وتأكد من أن بصيرة الإحساس تكفي لمعرفة ما حوله ... تحسس الاتجاهات الأربعة وإذا بها كلها جدران من الاسمنت المسلح ... انحنى برأسه وأخذ يتحسس أرضية الزنزانة الباردة التي لا تتجاوز مساحتها المتر مربع ... انتابته قشعريرة وكأنما شيئا نبهه ... تذكر حينها بأن السجود هو للباري وحده وليس لغيره، ودون تردد رفع عبد الصمد السبعيني العمر هامته عاليا ووقف بإيمان لا يتزحزح وهو الذي يحفظ القرآن كله عن ظهر قلب ... وقف بالرغم من جسده المتهالك وقواه الخائرة، وأخذ يتحسس سقف تلك الزنزانة اللعينة كآخر أمل للتخلص من بعض ذلك الظلام الدامس ... مد يده ووجد سطحا أسمنتيا مسلحا كبقية الأرجاء، وثارت ثائرته واستجمع كافة قواه وطاقاته التي أنهكها التعذيب الشنيع الذي كاد أن يرسله إلى العالم الآخر بسبب إصراره وتشبثه بذلك "الشور" الكبير المتعاظم في نظره وفي خياله ... زأر وكان كأسد جريح في غابة ملآ بالحيوانات المتكالبة :
ـ افتحوا الباب يا جبناء !!! متأكد من أنكم لن تفتحوه لأنكم تخافون عجوزا صحراويا بالكاد يتنفس وبالأحرى يتحرك بعد أن هشمت أضلاعه وأطرافه ... افتحوا الباب وأعطوني تفسيرا لكل هذا الاسمنت المسلح ولباب الهـــند هذه وما يجري خلفها؟؟؟ 
دبت حركة غير عادية في تلك الناحية من ذلك السجن الرهيب وكأن أمرا دبر بليل جاء على خلاف التوقع ... سجان عبد الصمد الذي انسل في وقت سابق وأشبعه ضربا مبرحا ورفسا قاتلا على مختلف المواضع، كان أول من هرع إلى الزنزانة وقد تملكه الرعب الشديد، وتحطمت أوصاله، ولم يعد قادرا لحظتها على فتح ذلك الباب الحديدي الثقيل ... وبمحاولة يائسة آلت إلى الفشل سقط الدربالي مرتعشا يهذي بصوت متقطع غلب على نبراته وقع الخوف من مكروه قادم :
ـ أهذا عبد الصمد؟ ألم أقتلك ؟ تبا لك وليوم عرفتك فيه !!! دعني أقتلك فأنت لست شيئا ...! دعني أقتلك هذه المرة كي أتمكن من العودة إلى أبنائي ثانية ... إنهم ينتظرونني في هذا الوقت عند باب المدرسة لأقلهم إلى الدار...!!! 
كان الدربالي ذاك السجان الثخين وقد بلغت به الأنانية مبلغها قد عرف قيمة الحياة لحظة الموت، وهو الذي كان يتأهب لترك العمل في عطلة لقاء أمر لم يتقنه ... كان يعلم أن مدير السجن أوكل إليه مهمة التخلص من ذاك الشيخ الخطر الذي يحمل مبادئ ورؤى لا تخدم إمبراطورية الملك ولا أحلامه في التوسع ... كان يعلم أنه قضى على نفسه وأنه سيكون هو الضحية حسب ما تمليه لعبة المخابرات المغربية، فخطأك الأول هو خطأك الأخير... 
عند باب الزنزانة أغمي على الدربالي حين عرف أنه ليس شيئا وسوف لن يكون شيئا على الإطلاق ... وبعد أن داسته أقدام الجند ورجالات الأمن، صحا قليلا، وإذا بهم يسارعون وقد انتابتهم هستيرية وحركة محمومة كان الغرض من ورائها التستر على نية كانت مبيتة لأب الأسود ... وفي طريقهم إلى زنزانة عبد الصمد، كان الدربالي قد سحل وجر يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى وجهة مجهولة ... وبعد ذلك ببرهة فتح باب الهند عن أسد جرئ لم تنقص شراسته حين أخذ من داخل زنزانته بطريقة همجية مريعة لم تفلح في إغمائه ولا في إخفاء تكشيره عن أنيابه، وما كانوا يعلمون في ذلك الوقت أن عبد الصمد لا زال يدخر "أعمارة الروح " في جسد هزيل حالته يرثى لها مثخنة بالجراح والكدمات ومدرجة بدماء زكية لا يحمل فصيلتها إلا بنو طينته ... استجمع من كان مسقط رأسه الساقية الحمراء ووادي الذهب أنفاسه كلها وحرص على وعيه وردد كلماته بصوت عال وبإمعان، قائلا والمخزن يحيطه ويتوارى به عن النظر:
ـ اللي يحمل قضية شرعية ويؤمن بالحق ما أيموت، أو لشجار أتموت أصلها فأتراب وأعراشها فاسما ... 
أخذ عبد الصمد المنهك نفسا ثم أردف والمخزن يدفع به في عجالة نحو المجهول عبر ممرات ضيقة بقيت تردد صدي آخر كلماته الى أن اختفى : 
ـ الدولة الصحراوية المستقلة هي الشور، أوهي الحل يسو اللاهي يخلك ........

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...