أرخى الليل سدوله على يوم شاق من أيام تلك الأم الصابرة والمرابطة، تنتظر بدر الأمل، تجلس على صينية الشاي .. يتحلق حولها افراد العائلة .. كل شيء على ما يرام في سكون الليل الهادي، الجميع يترقب موعد نشرة الاخبار، يفتح ابنها سلامة المذياع، يطرق سمعها الخبر الأبرز .. اكتشاف مقبرة جماعية في السمارة المحتلة .. تنبض أصداؤه في أعماقها وتغوص في بحر من الذكريات .. تخترق جرحها النازف منذ أكثر من ثلاثة عقود .. تحاصرها مشاهد المآسي الاليمة والدمار الذي حل بالوطن السليب .. أشلاء.. دماء...طائرات .. الناس تهرع من الخيام ... أصوات صراخ الأطفال والنساء، صياح الماشية ... يومها، اختلط الحابل بالنابل ... كانت الريح العاتية تهب بقوة، لتجرف معها البشر قبل الشجر والحجر، تاركةً جروحًا عميقة في قلوب الناجين من الجحيم.
جحيم على أنقاضه نجت هذه الأم المفجوعة ـ بفقد زوجها وبناتها الثلاثة وابنها محمد ـ لتروي قصة ما حدث في ذلك اليوم الحزين، من جراح تساقطت معها كل أوراق الخريف ...
آه يا ابنائي .. كنا سعداء نتنفس هواء نقيا في تلك الأرض الطيبة، ونرى الحرية في أشعة شمسها البراقة، وعلى حبات رمالها الذهبية الفسيحة "بكلابتها" التي تعانق السماء وأوديتها الخضراء، التي تأسر الناظر وطلحها الوافر الظلال... أحببنا تلك الأرض لأننا تربينا فيها ... سلامة، كنت صغيرا، تعانق خروفك الذي كان سبب نجاتك .. كنت متعلقا به تلاعبه وتسابقه.. هو أيضا كان يحبك، عندما تخلف عن الغنم في تلك الليلة.. كأن الله ساقه لنجدتك . تتوقف آه لكن ـ دوام الحال من المحال في ذلك اليوم المشؤوم، والذي لا يمكن أن أنساه، استيقظنا باكرا، لان سلامة لم ينم ليلته من شدة التفكير بمصير خروفه الضائع، والذي لم يرجع مع الغنم في ذلك المساء .. كانت السماء ملبدة بالغيوم، كنا ننتظر غيث السماء.. اتجهنا صوب الكهف الذي ترعى الغنم دائما حوله بحثا عن الخروف ... وبدأنا نقتفي اثر الماشية ..
فجأة، باغتتنا اسراب من الطائرات، تمطر قذائف ومتفجرات، عمت الانفجارات كل مكان... اهتز الكهف من شدتها.. صُمَّت أذاننا .. حينها اختلطت زوابع الخريف بريح الاجتياح المغربي التي عصفت بالمنطقة وحولتها إلى رماد.. اختبأت الأم وخبأت ولدها داخل الكهف، وشاهدت المجزرة بتفاصيلها.. رأت ابنها محمد وهو يرتقي شهيدا، تخفي وجهها وتغطي الصغير بملحفتها حتى لا يرى ما يحدث .. زوجها يخرج سلاحا للصيد لموجهة رجال مدججين بالسلاح، لكنه يسقط لأول محاولة للمقاومة، أمام وابل من الرصاص و القذائف التي ترميها الطائرات .. بناتها الثلاثة يقتلن الواحدة تلو الأخرى .. خيمتها التي نسجتها في وقت طويل تشتعل دفعة واحدة ... تيقن الغزاة بحرق وتدمير كل شيء، فغادروا المكان ... عادت الأم وهي مثقلة بوقع الكارثة.. إلى موقع المأساة.. وجدت أشلاء جثث متناثرة... لم تميزها من شدة القصف، كان الأكثر حظا، ابنها محمد الذي لم يلفظ أنفاسه الأخيرة حتى ودعها.. أمي ... لا تبكي .. لا تحزني .. سنلتقي يومـــــــــااااا...
عادت الام المكلومة إلى الكهف، لتمضي بقية اليوم تهدي من روع ابنها سلامة، كانت ترجف اضلاعه وتصطك أسنانه من هول الصدمة، وفداحة الفاجعة، وشدة الهلع.. تخبي وجهها وتضمه على صدرها حتى لا يرى حزنها العميق ودموعها المنهمرة كالمطر الحزين .. انتظرت غياب الشمس، لتستعين بظلام الليل على الابتعاد عن المنطقة التي تتوقف الطائرات عن التحليق حولها، وترمي بشررها على كل من يدب على الارض .. نام سلامة .. استراحت من أسئلته المحرجة التي لم يتوقف عن طرحها...أين أبي ..محمد .. أخواتي .. خروفي .. من فعل هذا بخيمتنا..
قررت الام الهرب بابنها، بحثًا عن الأمان .. حزمته على ظهرها .. ليبدأ طريق النزوح الطويل والوعر على الأقدام .. قطعوا مسافات طويلة، وهم يتجولون في الأراضي الوعرة، ويعانون من الجوع والعطش، سلامة كان خائفًا، لكنه كان يحاول أن يكون شجاعًا لأجل أمه ...بعد ليلتين من المشي على الاقدام، يشرق الفجر من جديد على سيارة مكتظة بالنساء والأطفال، حاولوا أن يجدوا لها ولصغيرها مكانا بينهم ... ركبت .. كانت رجلاها تنزف دما من طول السير الأرض ..
أخذت السيارة طريقا وعرا بين الاشجار وفي المنحدرات، للاختباء عن طائرات الغزاة التي لم تتوقف عن المطاردة، بحثا عن حياة لتقتلها.
كانت إجراءات السلامة تقتضي زيادة السرعة، حتى تورمت أجسادنا من شدة الاحتكاك بالسيارة ... كنا في الطريق نمر على أشلاء أطفال ونساء وشيوخ منهم من عجز عن الفرار ومنهم من قرر أن يبقى في أرضه حتى لو كان الثمن روحه .. لا زلت اذكر تلك المرأة التي مررنا بها وهي تصرخ وتمزق ملابسها وتنادي بأعلى صوتها .. وقفنا لنقلها وإسعافها هربت خائفة من صوت السيارة، ظنناها في البداية قد فقدت عقلها... فقيل أنها فقدت جميع عائلتها وبصرها بسبب الغازات السامة التي كانت تبعثها الطائرات... تعاطف الجميع معها، وحاولنا التخفيف من وقع الصدمة، إلا أن جرحها كان ينزف وبغزارة، كان أعمق من جراحنا.. طمأننا احد الثوار .. انتم الآن في أمان رغم الحزن الذي كاد يقتلني .. أحسسته سكينا يعبث بداخلي . .سرطانا ينخر في جسدي .. حاولت إخفاء الحزن، فالمصيبة إذا عمت هانت، وكل من خسرتهم .. زوجي وأبنائي نالوا شرف الشهادة، ويسرحون الآن في أودية الجنة ويسبحون في النعيم الأبدي، وسيقفون يوم القيامة امام من قتلوهم بتلك البشاعة ليقتصوا منهم امام رب عادل يأخذ لكل ذي حق حقه.
وصلت العائلة إلى مخيم اللاجئين، وهناك وجدوا بعض الراحة والأمان. كان سلامة سعيدًا برؤية الأطفال الذين وصلوا من مناطق أخرى وهم يلعبون، بدأ يلعب معهم.
رغم ظروف اللجوء، وقساوته حاولت الأم الصابرة، التكيف مع الواقع الجديد، دون أن يغيب عن مخيلتها حلم العودة إلى الوطن السليب والعيش فيه بسلام.
أتدرون: كنا نحضر لزواج محمد الذي قتلته يد الغدر قبل أن أرى حلمي يتحقق في الحفيد الذي طالما حلمت به، كان يومها، يستعد للسفر ليقتني لوازم الزواج ويعلم باقي العائلة بموعده القريب .. محمد هو ابني البار الذي رافقني لأداء فريضة الحج في البقاع المقدسة، كانت لحظات مفعمة بالإيمان .. ذقت بجانبه طعم الحياة .. محمد هو الذي كان لا ينام حتى أنام ولا يأكل حتى اشبع، يمرض لمرضي ويسعد لراحتي .. ما أبعد اخلاقه منكم، رغم انه لم يدرس مثلكم في الجامعات والمعاهد لكن مدرسة الاصالة، جعلته يتفوق عليكم وعلى اخلاقكم التي درستموها في كليات الآداب انتهي بنا الطريق إلى ارض الثوار، هذه الارض الطيبة التي فتحت ذراعيها لاحتضاننا ووفّرت لنا الملاجئ الآمنة، بنينا فيها خنادق تحت الأرض نختفي فيها عن القصف، كلما خلنا أو سمعنا صوت وفي الغالب كان أزيز الطائرات وأصوات القذائف والقنابل التي لم يكن يفارق أسماعنا من الصدمة الأولى مصدر رعب يلاحقنا...
ومع مرور الايام تحول سلامة من لاجئ صغير، الى مقاتل في طلائع جيش التحرير يحذوه الامل في تحرير ارضه، وطرد الغزاة الدخلاء، وظلت كلمات امه تطرق سمعه، بأن الخريف سيمر، والربيع سيأتي، وسيعود الشعب الى ارضه حرة مستقلة مهما طال الزمن.
بقلم : حمه المهدي / 27 فبراير2007