رحلة إنسان ولسان تبدأ من مراتع ومضارب العدنانيين والقحطانين باليمن القديم الى مرابع و گلابة( جبال) تيرس وزمور بأرض الصحراء الغربية؛ او ما يعرف تاريخيا بأرض الساقية الحمراء ووادي الذهب.
. إن المتتبع للهجات البلدان العربية اليوم يلفت إنتباهه إختلافها في نطق نفس الكلمة من بلد لٱخر؛ و حتى داخل البلد نفسه يتغير نطق كلمة نفسها من منطقة لأخرى؛ حتى ان بعض الكلمات يستبدل حرفا منها اصليا بحرف لا علاقة له به اصلا ولا فصلا. وقد يقلب حرفا في كلمة و تبقى الكلمة ومقلوبها بمعنى واحدا. لكن هذا القلب وهذا الإبدال له مرجعية في لغة القبائل العربية الاولى و التي كانت النواة الاولى؛ والحجر الأساس للغتنا العربية الفصحى.
أن ظاهرة قلب الحروف و إبدالها أمر شائع في جميع اللهجات العربية؛ فهي ليست قاصرة على اللهجات المعاصرة؛ بل هي ظاهرة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ و قديمة عند العرب قدم الإنسان العربي؛ و قدم اللغة العربية ذاتها؛ وقد وقف فقهاء اللغة الأوائل عند هاتين الظاهرتين و أسموهما ” القلب والإبدال ” وقاموا بدراستهما فوجدوا أن كل قبيلة من القبائل العربية تخصصت في قلب حرف معين بتقديمه او تأخيره في الكلمة مع الحفاظ على المعنى نفسه بين الكلمة ومقلوبها كقولنا بالعربية جبذ و جذب؛ او كقولنا بالحسانية "عراف" و رعاف بالعربية.
فيما تخصصت قبائل أخرى بإبدال حرف مكان حرف مع الحفاظ على المعنى نفسه بين المبدل والمبدل منه مع اختلاف في النطق؛ فقبيلة تميم مثلا عرفت بإبدال الهمزة أحيانا بعين تماما مثل ما نفعل نحن_ في الصحراء الغربية_ عندما ننطق كلمة "مؤتمر" ننطقها بحسانيتنا [موعتمر]؛ فنبدل الهمزة بالعين. نسبت هذه الظاهرة إلى تميم وقالوا عنعنة تميم .
وبعض قبائل ربيعة عرفت بإبدال الكاف شينا و لا سيما كاف خطاب المؤنث فيقولـون عليـش ومنـش أي عليـك ومنـك. ولا تزال هذه الظاهرة موجودة في بعض دول الخليج وعرفت قديما بالكشكشة فقالوا كشكشة ربيعة.
لاحظت ظاهرة إبدال الكاف شينا في منطقة الجزيرة بسوريا، اي المناطق الشرقية المتاخمة للعراق، حالهم حال اهل العراق مثلا ينطقون ،اكرمكم الله، الكلب [الشلب]. لكن نسمعها منطوقة عندهم وكأن الشين يتقدمه حرف التاء فتصبح كلمة الكلب على هذا النطق التشلب] .
كما عرفت عند قبائل اليمن بالشنشنة، حيث كانوا يقلبون الكاف شينا أيضا فيقولون : "لبيش اللهم لبيش"
هناك أيضا العجعجة وهي إبدال الياء جيما والجيم ياء وينسب علماء اللغة هذه الظاهرة إلى قبائل قضاعة؛ فكانوا يقولون [شيرة ومسيد] أي شجرة و مسجد؛ كما هي الحال عندنا في الصحراء الغربية و في موريتانيا حين نقول مسيد فالياء هنا مستبدلة بجيم اي مسجد. و ربما هناك كلمات اخرى في الحسانية عندنا تستبدل على هذه الشاكلة. ونجد هذا الإبدال في بعض دول الخليج كقولهم ريال بدلا عن رجال و مسيد بدلا عن مسجد و ينطقون كلمة "جد" فيقولون [يد] و عجمان ( الإمارة)ينطقونها [عيمان] في حين ان عيمان عندنا في الحسانية بمعنى ينقصه الدسم.
كما أن قبائل من ربيعة مثل مازن وبكر بن وائل كانت تستبدل الميم بالباء؛ كما نفعل نحن في الصحراء الغربية و موريتانيا في قولنا "نبلة" بدلا من نملة. و نلاحظ ظاهرة إبدال الميم باء في القرآن الكريم كذلك في كلمة "بكة" في قوله تعالى : ” أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ” أي الذي بمكة.
و لابد من الإشارة إلى ان هناك تبادلا يحدث عندنا في الحسانية؛ كما يحدث في اللهجات العامية الاخرى المحكية في البلاد العربية؛ مثلا يحدث تبادل بين التاء والطاء كقولنا في الحسانية "هذي تبيخة زينة" اي" هذه طبخة...." الطاء بدلت تاء.
و إبدال بين الذال والدال؛ و بين الظاء والضاد هذا الإبدل او الاستبدال سلم منه_ ولله الحمد_ اللسان الحساني؛ لكن نجد هذ الإبدال في دول المغرب العربي الاخرى كقولهم للذيب( الذئب) [الديب] و كقولهم للظاية [الضاية].
و نجد الإبدال بين الصاد والسين كما في قولنا بالحسانية " صبحان الله" سبحان الله؛ على الرغم من اننا نكتبها سبحان الله بالسين لكن تلقائيا درجت الألسن الحسانية عندنا على نطق السين هنا في سبحان الله صادا. قد ينطقها البعض سينا؛ لكن السواد الأعظم ينطقونها بالصاد و قد لا يتفطنون لهذا إذا راقبوا نطقهم قد يترأى لهم أنهم ينطقونها بالسين لكن الأمر سجية منقوشة على اللسان؛ و للتأكد من هذا لابد من العفوبة في النطق دون تكلف؛ حتى يتفطن المتلقي لأن نطق الصاد عندنا خفيفة و كأنها سين في سبحان الله [صبحان الله]. و هناك الكثير من الكلمات عندنا نبدل السين فيها صادا كذلك كقولنا في الحسانية "الصحور" اي السحور بمعنى وقت السحور في رمضان .
من اللافت للإنتباه ان اللسان الحساني الصحراوي درج على نطق الغين قافا كقولنا " رغم " ننطقها [رقم] و نكتبها رغم. و كقولنا [لقنم] ننطقها هكذا ونكتبها لغنم.
تقريبا لا يسلم عندنا حرف الغين من الأبدال بالقاف لفظا مع دقة معرفتنا له في سياق الكلام من ان الحرف ينطق غينا وليس قافا. بخلاف إخوتنا في بعض مناطق موريتانيا ينطقون الغين غينا؛ وذهب بهم نطق الغين مذهبه الى ان بعضهم اصبح ينطق الكلمات التي فيها القاف غينا.
نجد الإبدال كذلك بين الذال والزاي كما في دول المشرق العربي فيقولون [الزكرى] بدلا من الذكرى؛ و في بعض دول المشرق العربي مثلا سوريا و لبنان يبدلون الثاء بالسين كقولهم [السقافة] يقصدون الثقافة، وكقولهم [البحس] أي البحث. و يبدلون كذلك القاف همزة أو ألفا كقولهم القلم [ألم] اعاذنا الله و أياكم من الألم والوجع. يشار الى أن الألسن الحسانية سلمت من هذا القلب بفصاحتها .
وهناك الإبدال كذلك بين الميم والنون كماهو شائع عندنا في بعض الكلمات في الصحراء الغربية كقولنا [النبلة] بدلا من النملة؛ و كقولنا في الحسانية "ايام الحسون" بدلا من ايام الحسوم كما وردت في القرٱن الكريم بلغة قريش. و الصحراويون هنا يقولون ايام الحسون بالنون اشارة انهم "أيام حسنين ومباركين بالمعنى الثاني". و للتذكير هم ثمانية ايام وسبع ليال حسوما؛ اهل الصحراء اصلا اللا گابظينهم بالبركة بالمعنى الثاني.
وتجدر الإشارة الى أنه روي عن أحد فقهاء اللغة العربية القدامى أنه لا يكاد يوجد حرفا واحدا يسلم من ظاهرة الإبدال هذه .
نستنتج مما سلف ذكره ومما طالعته من كتب اللغة بأن اللغة العربية في الأصل مجموعة لهجات. فقد كانت لكل قبيلة من قبائل الجزيرة العربية لهجتها المميزة؛ ولعل هذا هو السر في نزول القرآن بسبعة أحرف كما هو وارد في صحيح الحديث، أي سبع لهجات. و في رواية ان سبعة حروف هي بعدد لغات القبائل: قريش، هذيل، ثقيف، هوازن، كنانة، تميم واليمن. وقيل أن العدد سبعة للتضعيف والكثرة كأنه نزل بجميع لهجات العرب. ولكن عندما جاءت لحظة تدوين القـرآن تم تدوينه بلهجة قريش؛ وتم استبعاد اللهجات الأخرى. ومنذ ذلك الحين أصبحت لهجة قريش هي اللهجة السائدة في الكتابة إلى اليوم؛ وهي المعروفة الآن باللغة العربية الفصحى دون غيرها من سائر اللهجات الأخرى التي صار يطلق عليها اللهجات العامية أو الدارجة.
إذن يمكن القول أن ظاهرة قلب الحروف و إبدالها والتي نسمعها اليوم على ألسنة العرب ليست بالأمر الجديد؛ وإنما هي امتداد طبيعي كان سائدا عند العرب القدماء. و كما سبق ان اسلفت الذكر عرفت هذه الظاهرة بالعجعجة واشتهرت بها قبائل قضاعة وهي تنسب إلى عدنان مثلها مثل مضر وربيعة وكانت منازلها شرق الجزيرة العربية منطقة الخليج الآن؛ يبدلون الياء المشددة جيما فيقولون [تميمج] ل تميمي و [راعج] ل راعي و يقولون [العشيج] للعشي. يبدلون كذلك كاف خطاب المؤنث إلى جيــم فيقولون في عليك [عليج] ، ومنك [منج] ، وايدك [ايدج] أما في بعض المناطق مثل إمارة رأس الخيمة المعروفة ببداوتها واصالتها العربية فيبدلون كاف خطاب المؤنث إلى شين . فيقولون في ايدك وعينك ، [ايدش] و [عينش] وقد عرفت هذه الظاهرة كما سبقت الإشارة بالكشكشة؛ وقد اشتهرت بها قبائل ربيعة بشرق الجزيرة العربية.
وإذا عدنا الى قصة نطق القاف مرة أخرى نجد أن هنالك أكثر من طريقة لنطق هذا الحرف بين سائر اللهجات العربية قديمها وحديثها. بل هنالك أكثر من طريقة داخل اللهجة الواحدة . فأهل مصر والشام ينطقونه همزة أو ألفا ، وبعض أهل السودان و الصعيد وسيناء والشرقية وفلسطين ينطقونه أقرب إلى الكاف؛ وأهل اليمن لهم نطقهم المميز للقاف مع شيء من الشدة وتثقيله فينطق هكذا [گ]عندنا نحن أهل الحسانية كقول اهل اليمن [الحگيگة] بدلا من الحقيقة. ننطقها نحن [الحقيقة] نختلف معهم؛ و نتفق معهم في نطقهم [الحگ] اي الحق، و ربما الأمر ليس عفويا فلا خلاف في الحق أبدا. لقد درج على ألسنة الصحراويين والموريتانيين نطق القاف قريب من الكاف لكن مع التثقيل والتشبيع لهذا الحرف فيصبح هكذا [گ] كقولنا [الگلب] اي القلب و تطلق هذه الكلمة كذلك على الجبل فيفهمها المتلقي رأسا على حسب سياق الكلام. و هناك كلمات تظل تحافظ على قافها الاصلي في الحديث العادي؛ و قد يستبدل قافها الى [گ] مثلا كلمة العقل ننطقها هكذا [العقل]؛ لكن الشاعر الحساني عندما يقف على اطلال ودمن قديمة تذكره بماض تولى و ذكريات أتى عليها الزمن؛ تتحرك عواطفه و تتأجج مشاعره؛ ويشده الشوق الى تلك الأوكار والديار؛ هنا يستبدل القاف في كلمة عقل الى" گ" و هذا امر سارت بعلمه و بخبره الركبان عند البيظان من بني حسان؛ و الشاهد على هذا الإبدال؛ يظهر في هذين البيتين من الشعر الحساني حين يقول الشاعر :
يالعگل اخلاك التشواشْ ماتلاو أدموعك يرگاوْ
بيك فگدْ أرْبيّبْ لحواشْ ؤبيك فگدْ أرْبيّبْ بلّاوْ
يشار الى أن أهل الخليج ينطقون القاف أحيانا جيما، فهم يقولون [الشارجة] للشارقة( الإمارة) و[جاسم] لقاسم ؛ فالأصل في الإسم جاسم هو قاسم بدلت القاف فيه جيما.
بعض مناطق سوريا يقولون اللهم صل على ابو جاسم اي ابو قاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما في السودان فينطق القاف بأكثر من طريقة فينطقونه غينا؛ وفي غالب الأحوال ينطقونه قريبا من الكاف اي ينطقونه [گ]. على. ذكر أهل السودان تجدر الإشارة الى ان نطق القاف جمعهم بناطقي الحسانية؛ كما جمعهم وتر الموسيقى الخامس عذب الصوت.
صفوة القول و زبدة الكلام أن الملاحظة الأكثر إثارة للدهشة هي أن نطق القاف أشبه بالغين هو النطق الذي كان سائدا بين سائر العرب القدماء كما ذهب إلى ذلك بعض فقهاء اللغة العربية . إذ يرى الدكتور إبراهيم أنيس عميد كلية دار العلوم سابقا؛ والعضو المؤسس لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في كتابه ” أصوات اللغة ” أن نطق السودانيين للقاف نوعا من الغين هو النطق الأصلي لهذا الحرف حيث يقول :" على أننا نستنتج من وصف القدماء لهذا الصوت أنه ربما كان يشبه تلك القاف المجهورة التي نسمعها الآن بين القبائل العربية في السودان وبعض قبائل جنوب العراق فهم ينطقونها نطقا يخالف معظم اللهجات العربية الحديثة إذ نسمعها منهم نوعا من الغين ” ويواصل قائلا : ” لهذا نفترض هنا أن القاف الأصلية كانت تشبه ذلك الصوت المجهور الذي نسمعه الآن من بعض القبائل السودانية ، إذ لا فرق بين نطق السودانيين وبين نطق المجيدين من القراء المصريين ” .
وأقول أن د.ابراهيم أنيس وغيره من فقهاء اللغة لو سمعوا نطق الصحراويين للقاف غينا لتأكدوا أنهم هم أهل الفصاحة و الاصالة؛ و قد يؤكدون أنهم (مدة مصگطة التراب) في إشارة الى جذورهم العدنانية و القحطانية اليمنية منبع فصاحة العرب. والأمر الذي يؤيد رأي د. إبراهيم أنيس و يؤكد أن نطق القاف أشبه بالغين كان هو السائد عند عامة العرب قول أحد المتحذلقين يفخر بنطقه الصحيح للقاف ويعيب نطق غيره له :
قولي يقلقل القاف قلقلة
وقول غيري يغير القاف تغييرا
فلو كان عامة العرب يقلقلون القاف مثلما يفعل لما كان له فضيلة عليهم ليتباهى بها. ومن هنا ندرك أن من ينطق القاف غينا فتلك سجية في اللسان العربي؛ مع التأكيد أن اللسان عيار اللغة وعيار اللسان الكلام والكلام سابق للكتابة والتدوين.
ومن هنا يتضح لنا جليا أن نطق الصحراويين للقاف غينا هو امر أصيل متأصل؛ و هو النطق الاصلي لهذا الحرف حسب ما تقدم ذكره في دراسة د.ابراهيم أنيس للحالة السودانية المشابهة لنطقنا لهذا الحرف. و لما لا يكون نطق الصحراويين هو الاصل والاصح في نطق القاف غينا؟!!!! و هم من تربى اوائلهم انذاك بين مضارب و مراتع العدنانيين و القحطانيين في بلاد اليمن القديم مهد الحضارات ومنبع الكرم و سلاقة اللسان وفصاحته؛ مع العلم أن الصحراويين لم يتأثر لسانهم الحساني البتة بلغات المستعمر كما تأثرت بها ألسنة بقية البلاد العربية؛ أين جثمت لغة المستعمر الأجنبي على القلوب والصدور ولم تسلم منها الألسنة كذلك الى يومنا هذا.
مركز تيرس للدراسات والابحاث.
.أ.لبيهي لولاد لخليفة
