يتوالى تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو)، وتتبدّل صياغات توصيات مجلس الأمن من عامٍ إلى آخر. ومع ذلك، تبقى قاعدة واحدة ثابتة لا تتغيّر: ضرورة تمكين الشعب الصحراوي من ممارسة حقّه غير القابل للتصرّف في تقرير مصيره بحرّية.
تجلّى هذا المعنى بوضوح في المعركة التي شهدتها أروقة مجلس الأمن مؤخراً؛ إذ حاولت بعض القوى ليَّ نصّ التوصية المتعلقة بالقضية الصحراوية لصالح رواية النظام المغربي الساعي إلى تحويل مبدأ تصفية الاستعمار إلى صفقة سياسية. غير أنّ المسعى ارتطم بمعارضة حازمة، لأن أيّ مساس بجوهر مبدأ تقرير المصير يحوّل المجلس إلى ساحة تناقضٍ مع ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها الخاصة بتصفية الاستعمار، ويجعله منصّةً تُشرعن الاستثناء على حساب القاعدة.
ستفشل محاولات فرض ما يُسمّى بـ«الحكم الذاتي» كمقاربة أحادية للحل؛ لأن تحويله إلى «الحل الوحيد» أو الإطار الحصري للمفاوضات يناقض الشرعية الدولية ويتجاوز اختصاصات مجلس الأمن. فحقّ تقرير المصير لا يُختزل في صيغٍ سياسية تُفرض من الخارج. وقد بات واضحاً لدى أعضاء المجلس، و خاصة أصدقاء الرباط، أن هناك خطوطاً حمراء لا تُجتاز: أيّ مقاربة تفرض إطاراً مسبقاً للمفاوضات، أو تستبق نتائجها، أو تُقيّد ممارسة الشعب الصحراوي لحقّه في تقرير المصير، إنما تمثّل تراجعاً عن مبدأٍ راسخ في القانون الدولي وانتهاكاً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة.
سيطلّ ممثلو المخزن بنشوة «انتصار» مألوفة، يروّجون لحسمٍ موهوم وإغلاقٍ للملف ونهايةٍ للبوليساريو. إنه خطابٌ مكرّر للاستهلاك الداخلي، يُسوَّق للوهم في الداخل المغربي ويستهدف الصحراويين بمحاولة بثّ اليأس والإحباط. غير أنّ الضجيج ما يلبث أن يخفت حتى يتبدّى أنّ شيئاً لم يتغيّر، وأن «النصر» المتخيَّل ليس سوى أضغاث أحلام. وقد صدق الجنرال الفيتنامي ڤو نغوين جياب حين وصف المستعمِر بأنّه تلميذٌ سيّئ لا يحفظ الدرس؛ ولو استوعب صانعو القرار في الرباط الدرس لتذكّروا أنّ قضية الصحراء الغربية ليست غزوةً عابرة تُحسم في أسبوع، كما توهّم الملك الراحل الحسن الثاني إبّان الاجتياح المشؤوم.
لا يجوز أن تتحوّل قرارات مجلس الأمن إلى إعادة إنتاجٍ لمؤتمر برلين الذي قسّم أفريقيا دون استشارة شعوبها وقدّم الصحراء الغربية لإسبانيا بغياب أهلها. تلك الحقبة انتهت و لم يعد مقبولاً أن يُحدَّد مصيرُ شعبٍ دون حضوره، ولا أن يُصاغ مستقبله بحبرٍ أجنبي.
إيمانُ الصحراويين بعدالةِ قضيتهم، وتشـبّثُهم بأرضهم، راسخان ومتجذّران كجبال زوگ، لجواد، ميجك وأرغيوة في الصحراء الغربية. هناك حفر الأجدادُ الآبار، وزرعوا السهول، وألِفوا أمكنتهم ومواضعَ نصبِ الخيام حتى صارت معالمُها محفوظةً في الصدور والذاكرة الجماعية؛ هناك لكلِّ كثيبٍ اسمٌ، ولكلِّ وادٍ حكايةٌ. إنها علاقةٌ متجذّرة ووفاءٌ ترسّخا عبر قرونٍ من الزمن. وقد روَت دماءَهم الزكيّة أرضُ الساقية الحمراء ووادي الذهب في مواجهة المستعمر؛ فكلُّ هضبةٍ تروي تاريخهم ومعالمهم، ولا أثر لغيرهم في السجلّ الحيّ للمكان. أمّا حضورُ المغرب هناك فلا يتجاوز خيالَ المخزن السياسي.
السيادة الدائمة على الأرض تبقى للشعب الصحراوي وحده؛ هو صاحب القرار في مستقبل الإقليم، ولا يملك أحدٌ حقّ تقويض خياره الثابت في تقرير المصير والاستقلال. ولن يكون هناك سلمٌ ولا استقرارٌ حقيقيّان ما لم تُقرّ دولةُ الاحتلال بحقّ الشعب الصحراوي في تقرير مصيره بحرّية ودون شروطٍ مسبقة، وفق قرارات الأمم المتحدة ومبدأ تصفية الاستعمار.
يقف النظام المغربي اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن يختار طريق السلام والاستقرار والتعاون المثمر القائم على الاحترام وسيادة الشعب الصحراوي على أرضه، وإمّا الإصرار على طريق الحرب الذي لن يجلب إلا الخراب له وللمنطقة بأسرها.
طريق السلام هو الأصلح لشعوب المنطقة، والشعب الصحراوي مستعدّ لتحمّل مسؤولياته وتقديم التضحيات من أجل استقرارٍ وازدهارٍ مشتركين. الشعب الصحراوي برغم كل ما عاناه خلال العقود الخمسة الماضية لا يزال يمد يده بخيار السلم و يقدم مبادراتٍ مسؤولة، وما المقترحُ السخيّ الذي قدّمته جبهة البوليساريو مؤخراً إلّا شاهدٌ على حسن النيّة والإرادة الصادقة في الوصول إلى حلٍّ عادلٍ ودائم.
لا يؤجّج النزاعَ أهلُ المنطقة بقدر ما تطيله التدخّلاتُ الخارجية ومصالحُ خصومٍ يفضّلون الاضطراب ليستسهلوا التحكّم في مقدّراتنا. استمرار النزاع يوفّر للقوى الخارجية وسيلةً لإدامة السيطرة ونهب الثروات؛ هؤلاء لا يريدون استقراراً لأن استمرار النزاع يمنحهم أرباحاً ومواقع نفوذ.
الشعب الصحراوي هو الحامل الحقيقي والأصيل للقلم الذي يرسم مصير الصحراء الغربية، قلم لا توجهه عواصمٌ ولا تسوقه أوامر. يستمد حبره من رمال التحدّي وصبر الصحراء، ويخطّ بالإرادة والثبات حتى يُكتب النصر الحتمي لأهل الأرض.
كمال فاضل - ممثل جبهة البوليساريو باستراليا
