بسم الله الرحمن الرحيم
زيارة بولس ـ خطاب الملك ـ وما يسطرون
سال حبر كثير في الأسابيع الماضية حول ما شهده إقليمنا المغاربي من أحداث كزيارة مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس للجزائر وبعض دول الشمال الإفريقي دون المرور بمملكة المغرب، خطاب ملك المخزن، ويده الممدودة للجزائر، ورغبته في البحث عن حل لا غالب ولا مغلوب فيه، وبياني المكتب الدائم للأمانة الوطنية لجبهة البوليساريو، الأول عقب زيارة بولس، والثاني ردا على خطاب ملك الاحتلال.
الحبر الذي أريق، تفرق رواده في اتجاهات شتى، وكان من أبرزهم أولئك الذين طبّلوا وزمّروا لما أسموه انخراطا أمريكيا في البحث عن حل لقضية تجاوز عمرها نصف قرن من الزمن. ومن يقول حل أمريكي مبني على رؤية اقتصادية، تزكي ما يسمى المقترح المغربي للحكم الذاتي، ولم يدخر أصحاب هذا الاتجاه ـ المتأمرك ـ جهدا في إبداع الحجج والأدلة التي توهم القارئ بأن "الحل الأمريكي السحري" قد حسم الأمور، بل من بينهم من يقدم ذلك كمصلحة للجزائر، ويقوم بتمجيد تاريخ الجزائر ـ الذي لا يحتاج إلى ممالئ أو منافق ليمجده ـ وإلى مكانتها اليوم ـ والتي هي الأخرى في غنى عن المتملقين أو الأقلام المأجورة للتنويه عنها أو الإشادة بها ـ وهلم جرا.
اتجاه ثان يحاول تقمص الموضوعية والتروي، ويستجلب خطاب ملك الاحتلال المغالط "يد ممدودة، ولا غالب أو مغلوب"، لكن أصحاب هذا الاتجاه ينجرّون خلف تحاليل ورؤى الغرب وإعلامه المشهور بالكيل بمكيالين، ثم إنهم يتناسون أن صاحب الخطاب ـ ملك الاحتلال ـ لا يمد يده لمن يعنيه الأمر ـ الشعب الصحراوي ـ ممثلا بجبهة البوليساريو أو الحكومة الصحراوية، بل يتبع النهج الإسرائيلي في التعامل الدبلوماسي، "التطبيع أو محاولته مع كل العرب إلا الفلسطينيين"، ملك الاحتلال يجانب الصواب ويبحث عن الحل في غير مكانه، لأن الجزائر ليست طرفا في القضية حسب الأمم المتحدة، بل مثلها مثل موريتانيا طرفين معنيين.
هذين الاتجاهين ـ المتأمرك أو المنجر خلف الغرب عموما ـ يغيبان الشعب الصحراوي من المعادلة كليا، وإن انتبها للأمر فإنما من باب التأكيد على القدرة الأمريكية وحلولها السحرية.
اتجاه ثالث ومعظمه من أقلامنا الصحراوية وينقسم هو الآخر إلى مجموعتين، واحدة تقلد الإعلام الغربي في تحاليله، وتتوه في عموميات ومصطلحات تساوي الضحية والجلاد، تقدم القضية على أنها نزاع بين ندّين وفي أحيان كثيرة دون تحديد من هما الخصمان، بل قد يفهم من التقديم على أن المتنازعان هما المغرب والجزائر، وهناك من يسقط في تقييم خاطئ حيث تجده يساوي أو لا يفرّق في تحليله بين شعب مقاوم مصر على انتزاع حقه مهما كلفه ذلك، وبين قوة احتلال غاشمة مدعومة من تحالفات دولية كبيرة متغطرسة، لا ترى من الحق إلا ما يخدم مصالحها، تهيمن على المشهد الدولي وتحاول فرض إرادتها، لكنه هو الآخر يغيّب تاريخنا الكفاحي بل وتاريخ كل الثورات والمستعمرات التي نالت استقلالها وفرضت وجودها بمقاومتها وتضحياتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، رغم أنف الهيمنة الغربية وهمجيتها، ورغم عدم تكافئ القوة.
وهناك الاتجاه الأكثر موضوعية حيث لا ينكر موازين القوة بيننا وبين محتل أرضنا وحلفائه، لكنه لا يستصغر قوة شعبنا وبأسه وإرادته وطول نفسه في تحقيق أهدافه.
وهنا لا بد من القول إننا اليوم في عالم يتغير بسرعة مذهلة، وأننا في ظرف يشهد الميلاد العسير لنظام دولي جديد بدأ يزيح نظام ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأخير يقاوم ويتمسك بمواقعه وهو عنيف ومتغطرس ولا إنساني بطبيعته، ولن يسلم بسهولة، لكنه يفقد مصداقيته وتنكشف مثالبه يوما بعد يوم، ولا أدل على ذلك مما يجري في فلسطين وفي غزة تحديدا. وهنا يمكن القول لمن تعميه أمريكا والغرب عموما بأنواره وبهرجته، أو ترهبه قوته، أين كل ذلك من غزة؟ أين هي الولايات المتحدة الأمريكية وحلولها السحرية؟ سياسية أو اقتصادية من كل ما يجري في الشرق الأوسط؟ وفي أوكرانيا، بل وفي العالم؟
أما من يقرؤون المشهد من زاوية لا يرون فيها سوى ضعف الطرف الصحراوي، فالسؤال هو: متى كنا نحن ومحتل أرضنا على نفس القدر من القوة في العدد أو العتاد أو التحالفات؟ قوتنا كانت دائما وستظل في تلك العوامل التي لا يمتلكها عدونا، من بينها حقنا غير القابل للتقادم أو التصرف، وحدة صفوفنا والتفافنا حول الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، إيمان جيشنا الشعبي وإرادته وقدرته على إلحاق الخسائر بالعدو. ألم يقل الشهيد الولي أن الثورة انطلقت اعتمادا على أشياء حتميا أن تقع وليس على أشياء موجودة؟
في المرحلة الأول من الحرب ضد الغزاة، التي يسميها البعض منا "الحرب الأولى" وهي تسمية خاطئة، لأنها حرب واحدة ضد غزاة أرضنا بدأت في 31/10/1975 وتوقفت في 1991 بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار وليس لقيام سلم أو سلام دائم، واستؤنفت في 13/11/2020 حين لم تتحق شروط استمرار وقفها، كما أن هذه التسمية "الحرب الأولى" تغيب الحرب ضد إسبانيا التي دامت قرابة الثلاث سنوات، وسقط فيها شهداء وجرحى وأسرى. هذا للتذكير فقط.
أكرر، جميعنا نتذكر، كيف كانت قوتنا وكيف كانت قوة أعدائنا، لن أغوص في التفاصيل حتى لأ أطيل أكثر، طائراتهم ودباباتهم بل وكل جحافل قواتهم التي اجتاحت الأرض والبحر والسماء، ومن يدعمونهم، كيف تحولت إلى غنائم وأسرى لدى مقاتلينا، وكيف تخندقت خلف الأحزمة الدفاعية. ثم كيف اكتسحنا العالم وتتالت الاعترافات بدولتنا، وقبل ذلك، ما الذي كان لدينا أو كنا عليه؟
اليوم نحن في مرحلة جديدة من الحرب والمقاومة ضد المحتل، وهو يحاول التجديد في أساليبه وتحالفاته وقدراته، نعم، هذا صحيح، ولا ينتظر منه غير ذلك، ونحن مازلنا نمثل الطرف الأضعف ماديا وعدديا، نعم صحيح أيضا. لكننا الطرف الأقوى معنويا، والأكثر شراسة وعنادا وتمسكا بحقه، ونحن الأصلب عودا والأوفى للشهداء.
مع كل هذا المشهد، من أين سنستمد القوة لمواصلة الصمود؟ من أين ستتأتى لنا القوة لتحقيق النصر المنشود؟ أين يكمن ضعفنا القاتل، وما هو مكمن العيب الحقيقي؟
لا أظن أن القفز على الحقائق الكبرى في تاريخنا وواقعنا يناسب للإجابة على مثل هذه الأسئلة، ولا أظن أن القراءة التي نستخف فيها ببعضنا ونهزأ من بعضنا تفيد هي الأخرى، لأنه لا أحد مهما كانت عبقريته يمتلك عصى سحرية ليقول للأشياء كن فتكون. ولأننا في أمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى للوحدة ولرص الصفوف وللالتفاف حول الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
أظن أن الإجابة الموضوعية والمعقولة تبدأ من تقديم رؤية وطرح يقوي تنظيمنا الجامع، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، طرح يوحد الصفوف، يثمن ما أنجزنا بدماء شهدائنا، ويستحضر العدو وخبثه ومؤامراته، طرح يستمد قوته من تاريخنا الكفاحي ومن صمود شعبنا الأسطوري، يقوي الإيمان بالنصر والثقة بالنفس، طرح نحترم فيه بعضنا البعض.
هذا الطرح وهذه الروية تشترط الابتعاد عن الأنانية والقبلية والتنابز بالألقاب، ونبذ تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية، فهل نحن قادرون على تحقيق مثل هذه الشروط؟
الله الموفق
تصعيد القتال لطرد الاحتلال واستكمال السيادة.
مصطفى الكتاب
19/08/2025