القائمة الرئيسية

الصفحات

شيغالي أمكية: سيرة رجل حمل كرامة شعب واستشهد شامخا


الكاتب: احمد مولاي حمة (الساسي) 
في زمن كانت فيه الحرية تهمة، وكان الدفاع عن الكرامة جريمة، سطع نجم رجل آمن بأن الظلم لا يخلد، وبأن صوت الشعوب، مهما أُسكت، لا يموت. إنه الشهيد شيغالي سيدي أحمد الحضرمي أمكي، أحد الأصوات الصادقة التي دفعت حياتها ثمنا لمواقفها، ورمز من رموز الكرامة الذين سكنوا وجدان شعبهم رغم وحشية الطغاة.
ولد الشهيد شيغالي سيدي أحمد الحضرمي أمكي سنة 1927 بمنطقة أطار، في الشمال الموريتاني، على تخوم شرق وجنوب الصحراء الغربية، في بيئة أصيلة تنضح بالعراقة والمروءة. ينحدر من أسرة معروفة تُعرف بـ"أهل أمكية"، ذات الجذور الراسخة في إمارة آدرار التاريخية، إحدى أبرز الحواضر الثقافية والعلمية في موريتانيا. تميّز الشهيد بحياة أسرية زاخرة؛ إذ كان متزوجًا من ثلاث نساء، وأبا لثمانية عشر ابنا، بينهم أربع عشرة أنثى وأربعة ذكور، خلف لهم إرثًا من العزّة والصمود لا تقدر قيمته بثمن. من بين أبنائه يبرز بلاه، أحد أبرز رجالات الدولة في مرحلة لاحقة، حيث تولى رئاسة الحزب الجمهوري في عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، كما شغل منصب سفير، إلى جانب إخوته: المامي، والسيد أحمد، والهيبة، وغيرهم ممن حملوا قبس إرث والدهم النضالي والوطني.
نشأ الشهيد في بيئة أصيلة مشبعة بالقيم الدينية والعلمية. تلقى تعليمه في المحضرة، حيث نهل من ينابيع القرآن الكريم، وتشرب علوم اللغة العربية والفقه والشعر، فتكوّنت لديه شخصية متزنة، أصيلة، ومشعة بالكرامة. كانت المحظرة بوابته الأولى نحو إدراك الظلم ورفض الاستكانة له، فكان منذ شبابه ثائرا في وجه الاستعمار الفرنسي، رافضًا للخنوع، حاملاً حلم شعبه في الحرية والاستقلال.
في عام 1948، شرع شيغالي أمكية في مزاولة التجارة، فكان يقطع الفيافي والصحاري، متنقلا بين آدرار وواد نون، حيث يبيع الإبل ويعود محملا بالسلع والبضائع إلى موريتانيا، في مشهد يُجسّد روح التحدي والتشبث بحبال الكرامة والاكتفاء. ومع اشتداد رياح التغيير في المنطقة، لم يتردد في الانخراط في جيش التحرير الشعبي الصحراوي إبّان ما يُعرف بدولة الوبر وفدرالية العشائر، حيث مقربا من أبرز القادة الميدانيين ورموز وقيادات "المية" المؤسسين الفعليين لنواة جيش التحرير الشعبي الصحراوي الأول ضد الاستعمار، مثل أعلي بويا ولد ميارة و حمة الساسي، ممن عرفوا بشجاعتهم وبصمتهم الواضحة في مسار المقاومة داخل الفضاء الجغرافي الواسع الممتد من الصحراء الغربية مرورا بالقطر الموريتاني والجزائري، وصولًا إلى تخوم منطقة الساحل الإفريقي، حيث كانت خطوط النار والتحرك شاسعة ومفتوحة الحدود تتبع فقط نداء الحرية والكرامة ومناطق امتدادت الهويات البيظانية الاصيلة.
وبعد تفكيك جيش التحرير، أُسندت الى شيغالي مهمة قيادة منطقة لمسيد شرق مدينة الطنطان، فكان رجل دولة بامتياز، يحظى بثقة الأهالي وتقديرهم، لما امتاز به من حسن الخلق، وتواضع لا يعرف الكِبر، حتى غدا بيته مأوى لكل عابر سبيل وملجأ لكل محتاج، مفتوحا كقلبه الكبير. وفي عام 1969، احيل الى وحدة عسكرية المعروفة باسم "دوزيام بطيون"، غير أن مسيرته العسكرية لم تطل حيث اصطدمت بجدار الخلاف مع العقيد المجرم المغربي عبد السلام بن الحسين العمارتي، حيث نشب بينهما نزاع حاد، دفعه إلى اتخاذ قرار التقاعد سنة 1971، بعد أن لاحق العقيد المغربي اتهامات خطيرة تتعلق بجرائم إبادة جماعية بحق المدنيين الصحراويين، من رمي الأبرياء من الطائرات قرب السمارة إلى دفن الضحايا في مقابر جماعية بمنطقة لمسيد.
عاد بعدها إلى مهنته الأولى، فأسس شركتين: إحداهما للنقل، والأخرى تنشط في مجال التعدين، ليواصل كفاحه المدني بروح التاجر الشريف والوطني الصلب. ظل مستقراً في منطقة تالسينت نواحي ورزازات حتى عام 1974، ثم انتقل إلى مدينة العيون سنة 1975، حاملا في قلبه تاريخاً من الوفاء والكرامة، وفي ذاكرته صور الصحاري والرجال الذين رفضوا الانحناء للعاصفة.
في ظل أجواء الرعب التي خيمت على الصحراء الغربية عقب الاجتياح المغربي، تعرض الأب والمناضل الصحراوي شيغالي أمكية للاختطاف القسري يوم 27 يناير 1976 بمدينة العيون المحتلة. جاء اختطافه ضمن حملة قمعية شرسة شنتها السلطات المغربية مباشرة بعد دخولها الإقليمي غير المشروع، طالت مئات الصحراويين في المدن والقرى الصحراوية، كما امتدت إلى مناطق شمال الجمهورية وبعض الحواضر الداخلية، مستهدفة بالدرجة الأولى النشطاء من صفوف الحركة الطلابية والتلاميذية الصحراوية في المؤسسات التعليمية، في محاولة لإسكات الأصوات الحرة واقتلاع بذور المقاومة من جذورها.
وقد تم اختطاف الأب شيغالي من قلب الشارع العام بالعيون المحتلة، بينما كان برفقة إحدى زوجاته، التي بقيت في السيارة تنتظر عودته استعدادا لمغادرة العيون في طريق العودة إلى مدينة الطنطان، حيث مقر عمله، وموطن أسرته وأبنائه. كانت لحظة الاختطاف مباغتة وقاسية، فصلت بين الرجل وأحبته على حين غرة، تاركة زوجته وجلة، تترقب عبثًا عودته بين لحظة وأخرى.
وتشير روايات موثوقة إلى أن السلطات المغربية، عبر أذرعها الاستخباراتية، حاولت آنذاك استمالته بعرض مغرٍ تمثل في قيادة وحدة عسكرية موجهة ضد الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب. غير أن رده جاء صارمًا، لا لبس فيه: "لن أرفع سلاحي في وجه أبناء شعبي، أولئك الذين ترعرعوا أمام ناظري، وتربطني بأسرهم أواصر الدم والصداقة والمود." موقفٌ يكشف معدن الرجل وصلابة مبدئه، ورفضه أن يتحول إلى أداة في يد الاحتلال ضد رفاق دربه وأبناء جلدته.
في وقت لاحق، تم ترحيله إلى مدينة أكادير، ثم إلى المعتقل السري الرهيب أقدز، حيث قضى ما تبقى من أيامه بين جدران الصمت والعذاب. وفي يوم 23 يونيو 1977، ارتقى شهيدا تحت وطأة التعذيب، وسوء المعاملة، والظروف اللاإنسانية التي حولت المعتقل إلى مقبرة للأحياء. غير أن استشهاده لم يكن مجرد نهاية مأساوية، بل موقفًا إنسانيا خالدا؛ إذ تشير الشهادات إلى أنه، في لحظاته الأخيرة، سمع أنين رفيق دربه المناضل اعلي بويا ولد ميارة، فحطم باب زنزانته في محاولة يائسة لتقديم يد العون، متحديا قسوة السجان وبؤس اللحظة.
نقل أعلي بويا، بعد الإفراج عنه، تفاصيل تلك اللحظة الموجعة، التي بقيت محفورة في ذاكرته، وهو الذي تقاسم مع الشهيد محنة الاعتقال وآلامه، إلى جانب أفراد من أسرته. كان من بينهم شقيقه الأصغر، الهيبة، الذي ارتقى شهيدًا في معتقل أگدز بعد شهر واحد فقط من استشهاد شيغالي، وذلك بتاريخ 27 يوليو 1977، عقب مواجهة بطولية داخل السجن مع الجلادين الذين حاولوا الاعتداء على الشهيد النعجة منت برهما التي استشهدت في نفس المخبأ السري سنة 11/11/1976. وقد تعرض الهيبة حينها لأبشع صنوف التعذيب، التي أودت بحياته. كما ذاق السجن والاضطهاد أيضًا شقيقه الأكبر الشيخ، سيدح، وقريبهم بشيري ولد لبات ميارة، في مشهد يعكس فصولا دامية من القمع والانتهاكات الجسيمة التي وسمت تلك المرحلة السوداء من تاريخ الصحراء الغربية.
وفي هذا السياق المشترك من التضحية والفداء، لم تنجُ عائلة ميارة المحاربة من ويلات الانتقام، تلك العائلة التي حملت لواء المقاومة في وجه الاستعمار الفرنسي والإسباني والمغربي، عبر المساحات الموحدة الثلاث: الجنوب الجزائري، والقطر الموريتاني، والصحراء الغربية. ومنذ عهد "دولة الوبر" وما قبلها وبعدها، ظلّت هذه العائلة شوكة في حلق المحتل، لا تستقر بأرض إلا وتلاحقها عيون المستعمر وتُرسل إليها يد البطش، فظلوا مطاردين، منفيين، ومنتقَمًا منهم، حيثما حلّوا أو ارتحلوا، جزاءً لثباتهم على درب الحرية ورفضهم للذل والخضوع.
وحتى في زمن الاحتراب القبلي، حين انشغلت بعض القبائل ببعضها في صراعات دامية، رفضت عائلة ميارة الانجرار إلى تلك الفتن، ووجهت أسلحتها نحو العدو الحقيقي الا وهو الاستعمار. ومن رموزها الذين سطروا أسماءهم بمداد من نار وكرامة، كان أعلي ولد ميارة، المعروف بين رفاقه وخصومه بـ” روبن هود الصحراء"، ومعه اخوه الفراح وآخرون كثر، تشهد لهم الرمال والوديان، وتشهد لهم الذاكرة الحية لشعوب المنطقة.
ومن بين هؤلاء المقاومين، يظل غياب "شيغالي أمكية" جرحا مفتوحا في ذاكرة الجمعية، لم تندمل آثاره، ولم تخفت أصداؤه. ولم تكن فاجعة العائلة في غياب "شيغالي أمكية" مجرد حكاية اختفاء، بل كانت مأساة مستمر عبر الزمن، نزفت فيها القلوب قبل الدموع، وظلت العائلة تسأل الريح عن عائد لا يعود. ظلوا ينتظرونه كما ينتظر العطاشى غيمة في صيف الصحراء، ولكن الغياب طال، والوجع تأصل.
ذاقت العائلة مرارة الظلم، فلم تكتفِ آلة القمع المغربية باختطاف الوالد، بل صادرت ما تبقّى من حياة كريمة لهم. سُلبت ممتلكاتهم، وشردوا بلا مأوى، وسقطوا في هاوية الفقر المقذع، وضاعت فرص التعليم والعمل كما تضيع الحروف في عتمة الظلم. أصبحوا غرباء في وطنٍ ينهشه الطغيان، بلا أمل ولا استقرار بعد ان كانوا من العائلات الأرستقراطية في المنطقة.
سنوات طويلة قضوها في رعبٍ مقيم، لا تقتصر على لحظة الاختطاف، بل تمتد إلى كل لحظة انتظار، وكل محاولة يائسة للعثور على أثر. وكان الأمل الأخير يرفرف في صدورهم حين أُفرج سنة 1991 عن أكثر من 350 مختطفًا صحراويًا من غياهب المخابئ المغربية السرية، من آكدز إلى مكونة، ومن الريش إلى البسي سيمي في العيون المحتلة و لكن لم يكن بينهم "شيغالي". خذلهم الأمل، كما يخون السراب عيون الظامئين.
شهادات الناجين كانت كخناجر صدئة تمزق قلوبهم: لقد قتل "شيغالي" بدم بارد بعد أقل من عام من اختطافه، تحت سياط التعذيب وسوء المعاملة، في زنازين لا تعرف من الإنسانية سوى اسمها. لم يكن ذنبه سوى أنه كان رجلًا من طينة نادرة، قاوم الاستعمار، ووهب حياته لأرضٍ أحبها، ولشعبٍ اعتنق قضيته.
المخابرات المغربية كانت سادية في بطشها، لم تكتفِ بسلب "شيغالي" حياته، بل تجاهلت عمداً شجاعته، وتاريخه النضالي، ومحبة الناس له. فقد كان صوتا صادقا في زمن الباطل، ورمزا للكرامة في زمن الانكسار. رجلا آمن بحرية الشعوب، وبأن الظلم لا يخلد، وأن الاحتلال، مهما طال، مصيره الزوال.
ولم يكن "شيغالي" وحده في زنزانته، بل كان معه شعب بأكمله، يحمل صوته، ويحيا على خطاه، رغم الغياب. فإن رحل شيغالي، فإن الروح لا تعتقل، وإن غاب الاسم، فإن المبدأ لا يموت.
وكما قال الشاعر الموريتاني أحمدُو ولد عبد القادر:
"في الجماهير تكمن المعجزاتُ... ومن الظلمِ تولد الحرياتُ."

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...