في ظل سياق دولي متحول وإقليمي مضطرب، يعيش الشعب الصحراوي واحدة من أدق وأصعب مراحل نضاله الوطني، حيث تتشابك التحديات السياسية والاجتماعية والإنسانية في مشهد يفرض مراجعات جدية ومسؤولة لمجمل مسار القضية الوطنية.
فبين صلابة الموقف الوطني المبدئي في وجه الاحتلال المغربي، وثقل سنوات اللجوء والشتات، وبين انتظارات الشعب في الحرية والكرامة، يبرز سؤال ملحّ : ما السبيل للخروج من عنق الزجاجة دون المساس من تقدير واحترام رموزنا ، وبوحدة الصف الوطني وثوابت النضال؟
إن الواقع الصحراوي اليوم ليس مجرد انعكاس لمأساة احتلال لم يعرف مثله العالم الحديث من حيث الصمت الدولي والتواطؤ المكشوف، بل هو أيضًا مرآة لتحديات داخلية تتطلب الشجاعة في الطرح والصدق في التشخيص، بعيدًا عن التجميل أو الإنكار. فالوضع في مخيمات اللاجئين يزداد تعقيدًا بسبب تخلي الكثير من القوى الدولية الفاعلة عن مسؤولياتها، وتواطؤ بعض الأطراف الإقليمية والضغوطات الاقتصادية ، وتراجع الدعم الإنساني وتداعاياته على منظومة الخدمات الأساسية في مخيمات اللاجئين الصحراويين . أما الأرض المحتلة فهي مسرح لصراع يومي بين كرامة تقاوم القمع، وقوة احتلال تسعى لإخماد أي صوت حر ، ولاتزال تعيش تحت وطأة القمع الممنهج ، وحرمان الشعب من أبسط حقوقه المدنية والإنسانية، في ظل تصعيد ممنهج لسياسات التذويب والتمييز والاستيطان من طرف الاحتلال المغربي وممارساته الهمجية .
ومع ذلك فإن هذه المرحلة بكل مرارتها تضع أمامنا فرصة تاريخية لمساءلة أنفسنا كنخب أو كأشباه نخب سياسية ، إعلامية وثقافية وشبابية ، عن دورنا في تعزيز صمود الشعب ، وتجديد أدوات الفعل الوطني، وتحصين الجبهة الداخلية التي تمثل الركيزة الأساسية لأي مشروع تحرري. إذ لا يمكن الحديث عن النصر في معركة طويلة الأمد دون جبهة داخلية متماسكة، وقيادة وشعب يتحركان في تناغم، وإرادة جماعية صلبة تتجاوز الحسابات الضيقة والخلافات الشكلية .
وفي هذا السياق ، ورغم أن الأنظار كثيرًا ما تتجه نحو القيادة السياسية عند الحديث عن مكامن الخلل والتراجع، إلا أن الإنصاف والموضوعية يفرضان علينا الاعتراف بأن المسؤولية لا تقع على عاتق القيادة وحدها. صحيح أن القيادة تتحمل نصيبها من التقييم والمساءلة، لكنها ليست الفاعل الوحيد في المشهد الوطني . فكل فرد من موقعه ، يتحمل جزءًا من المسؤولية ، سواء أكان موظفًا في مؤسسة عمومية، أو ناشطًا مدنيًا، أو إعلاميًا، أو إطارًا ثقافيًا أو تربويًا، أو حتى مواطنًا عاديًا يتفاعل أو يتقاعس.
إن ضعف الأداء لا يمكن ان يُختزل في السياسات العامة أو الهيئات القيادية فقط ، بل يتجسد أحيانًا في ثقافة التواكل، وفي غياب روح المبادرة على المستويات الوسطى والقاعدية ، وفي الاستسلام للروتين واللامبالاة ، أو حتى في المزايدات التي تضعف وحدة الصف بدل تقويتها. وبالتالي فإن مراجعة المسار لا تعني بالضرورة إدانة طرف بعينه ، بل هي دعوة جماعية للتصحيح وإعادة بناء الثقة من القاعدة إلى القمة.
وفي قلب هذا المسار، تبرز مسؤولية المؤسسات الوطنية وخاصة التي تُعنى بالتنشئة الاجتماعية والسياسية والثقافية ، والتي يقع على عاتقها واجب أساسي في التفاعل الخلاق مع الأجيال الجديدة ، لا من موقع الوصاية، بل من موقع الشراكة والتوجيه.
لقد أصبح من الضروري أن تبادر هذه المؤسسات إلى خلق فضاءات منتظمة للحوار والتواصل مع الشباب، من خلال تنظيم ندوات فكرية ، ولقاءات تفاعلية ، ومنتديات ثقافية واجتماعية تفتح المجال أمام التعبير الحر والنقاش المسؤول. كما أن تكثيف البرامج التكوينية ، الثقافية والرياضية، والتنشيطية، والترفيهية الهادفة ، من شأنه أن يساهم في بناء وتعزيز الثقة ، وتفريغ الطاقات الإيجابية ، وخلق بيئة نفسية واجتماعية صحية تُسهم في فهم أعمق لاحتياجات وتطلعات الشباب.
مع التأكيد على انه لا يمكن بناء استراتيجيات او سياسات وطنية فعّالة ما لم تكن مستندة إلى قراءة للواقع الحقيقي الذي تمر به قضيتنا الوطنية في مختلف الجبهات ، ولنفسية وتطلعات الشباب الصحراوي ، ولطبيعة التحولات النفسية والاجتماعية التي تمر بها الأجيال الجديدة ، سواء في المخيمات أو في المهجر أو في المناطق المحتلة. وبان الاستجابة لهذه التحديات لا يجب أن تكون بتكرار البرامج التقليدية، بل بابتكار أدوات عمل جديدة تُشرك كل المؤسسات والشباب في صنع السياسات، وتمنحهم الإحساس والشعور بالاحتضان والانتماء .
وهنا تبرز أهمية نوعية القيادات الشبانية التي يجب إعدادها ودعمها وترشيحها لمختلف المهام والمسؤوليات . فنجاح أي توجه وطني بخصوص التشبيب والتواصل لا يرتبط فقط بعدد الكوادر الشابة ، بل بنضجها الفكري، ومستوى وعيها السياسي والاجتماعي، وقدرتها على الفهم العميق للواقع وتطلعات الجماهير. نحن بحاجة إلى قيادات شابة تملك رؤية واضحة، ولغة مقنعة، وعقلية منفتحة، قادرة على ربط الماضي بالحاضر، وعلى بناء جسور الثقة مع القاعدة الشعبية وخاصة الشبانية منها .
إن هذه القيادات الواعية هي التي تستطيع أن تشكل حلقة الوصل بين المؤسسات والمجتمع وبين القمة والقاعدة ، وتدفع نحو تجديد الروح الوطنية وتجسيد الطموح الجماعي.
ومن المهم أن ندرك في هذه المرحلة الفارقة ، أن القضية ليست مسألة مواعيد أو توقيتات تنظيمية، ولا ترتبط بتقديم المؤتمرات أو تأخيرها فحسب ، بل بجوهر أعمق يتمثل في الإرادة الوطنية ، والوعي الجماعي، وتحمل المسؤولية بشكل مشترك. فالأزمات لا تُحلّ بتقديم الاستحقاقات أو تأخيرها أو تأجيلها ، وإنما بفعل جاد ، شجاع ومنظم ، يلامس جوهر الإشكالات ويفتح آفاقًا للحلول الواقعية وشبه المستدامة رغم صعوبة ذلك في ظل إكراهات واقع اللجؤ ومتطلبات واولويات حرب التحرير .
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة المستمرة لحضور ولاستلهام روح جيل التأسيس بما يضمن التواصل السلس الواعي فيما بين الأجيال ، جيل التأسيس الذي آمن بالتحرر قبل أن تتحقق معالمه ، وواجه الاستعمار بالإرادة قبل توفر الإمكانيات . فمع كل التعقيدات الدولية الجديدة ، والمخاطر المتزايدة التي تهدد المشاريع التحررية في العالم ، تزداد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تلك التجربة الفريدة ، وإلى ذلك النفس النضالي العميق ، والإيمان الصلب بالمصير المشترك ، والعزيمة التي لا تنكسر أمام تقلبات الظرف الدولي أو خذلان البعض .
إن المرحلة تفرض علينا جميعًا، قيادة وشعبًا ، أن نعلو فوق الجراح ، وأن نعيد الاعتبار للقيم التي تأسس عليها كفاحنا الوطني ، التضحية ، الوحدة، الوفاء للشهداء، الإيمان بعدالة القضية، والتصدي لكل ما من شأنه أن يضعف نسيجنا الداخلي. فأرضنا ليست فقط أرضًا محتلة ، بل هي أيضًا هوية ورسالة ومصير مشترك ، يحتاج منا إلى جهد يومي ، وعمل صبور، وثقة لا تهتز. وعلينا ان نصارح أنفسنا بالحقيقة مهما كانت موجعة بان ما نراه اليوم من تراجع في القيم الثورية والثقافية ومستوى التفكير مسؤولية أخلاقية وتاريخية ملقاة على عاتق كل صحراوي يحمل في قلبه بوصلة الحرية. فإما أن نكون على مستوى هذه المسؤولية، أو نتركها تتآكل في صمت الخيبات .
مع التاكيد على إن وحدة الصف الوطني ليست شعارًا ظرفيًا، بل هي شرط أساسي للاستمرار والمناعة السياسية في وجه كل محاولات الاختراق والتشتيت. وهي تبدأ من الإيمان الصادق بأن المشروع الوطني هو مسؤولية جماعية، لا تقتصر على القيادة السياسية فقط ، بل تشمل كل الفاعلين في المجتمع ، من المثقف والفنان إلى الطالب والجندي والإعلامي والمهاجر. إن كل موقع هو خندق، وكل مساهمة مهما صغرت هي لبنة في بناء مشروعنا الوطني التحرري المقدس .
ختامًا ، لاخيار امامنا على ان نتفق بإن قوة أي شعب لا تقاس فقط بعدد سنوات مقاومته، بل بقدرته على التجدد، وتحويل الألم إلى أمل ، والانكسار إلى انطلاقة جديدة. والشعب الصحراوي رغم كل التحديات أثبت أنه يملك من الوعي والإرادة والتاريخ ما يؤهله ليس فقط للاستمرار، بل للانتصار ، وتحقيق حلم الحرية والاستقلال .
بقلم المناضل الثائر من جذور الساقية والواد ، قبل أن يكون الوزير / موسى سلمى لعبيد