حين تُغزَى الأوطان وتُدنَّس الأرض بأقدام المحتل، تتنوع أدوات المقاومة بين رصاص البنادق وهتافات المنادين، لكنّ أعمقها أثرًا وأبقاها في الوجدان، هي المقاومة الثقافية، فهي تلك النار الهادئة التي لا تخمد، والتي تتقد في القلوب والعقول، تشعلها الكلمات، وتغذيها الذاكرة، وتحملها الأجيال كشعلة أمل لا تنطفئ. فيقول استالين: "إذا أردت أن تدمر شعبا فأبدأ بمحو ثقافته".
ولكن الشعوب التي تعرف من هي، لا تُمحى، وإنما تنتفض وتتزن مقاومتها بثقافتها، وتُجابه الطغيان بالكلمة، كما تجابهه بقوة النار والحديد.
إذ أن الاحتلال لا يسرق الأرض فقط، بل يحاول سرقة الذاكرة والروح ويسعى لمحو اللغة، وتزييف التاريخ، وخلع الرموز، لأنه يعلم أن قتل الذاكرة أخطر من قتل الأجساد. ففي وجه هذا الهجوم، تتحول اللغة إلى خندق مقاومة، كما حصل في الجزائر حين منع الاستعمار الفرنسي تعليم العربية، فأقام الشعب المدارس القرآنية سرًا. ولا شيء يُرعب المحتل ويدمر اطماعه أكثر من محتويات ثقافتنا: من قصيدة تُشعل الوجدان، ولا شيء يهدم طرحه الزائف مثل لوحة ترسم وجعه الحقيقي.
فيقول محمود درويش:
"وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا... أنا العاشق والأرض حبيبتي"
ويقول المرحوم بادي محمد سالم:
أتْنادِي يالصّحْرَ منْ فَمْ
لَوْلَادَكْ لَبّيْكْ إلَذاكْ
مَخَلاكْ انْتِ هِيّ لَمْ
يالصّحْرَ واحنَ بَرّيْناكْ
فالثقافة تُصهر الناس في بوتقة واحدة. تجعل من الشتات صوتًا واحدًا يهتف: "لن ننسى... لن نستسلم!" وكل كلمة مقاومة تصدح بالحقيقة، تشعل الوعي، وتلهب الجماهير.
في النهاية، تبقى الثقافة السلاح الأعمق والأكثر رسوخًا في مواجهة الاحتلال، لأنها تحمي الهوية من الزوال، وتُبقي الذاكرة حيّة في وجه محاولات الطمس والنسيان. فالكلمة، والقصيدة، واللوحة، واللحن، ليست مجرد تعبيرات فنية، بل هي خنادق مقاومة تحفظ الوجود، وتُبقي جذوة النضال متقدة في القلوب. فطالما ظلّت الشعوب متمسكة بثقافتها، فلن تُهزم، ولن تُمحى.
2025/06/30
محمد فاضل محمد اسماعيل obrero