تمرّ علينا ذكرى رحيل الزعيم الكبير والقائد الفذ، محمد عبد العزيز، وقد خفت صوته، لكنه بقي حاضرًا في ضمير شعبه، وفي ذاكرة كل من عرفه قائدًا فذًّا، وصوتًا حرًا في وجه الاستعمار والهيمنة، ورجل دولة نادرًا ما يجود به الزمن العربي الحديث.
ولد محمد عبد العزيز سنة 1946 في منطقة خنيفسات في الصحراء الغربية، وتقلّد منصب الأمين العام لجبهة البوليساريو سنة 1976، بعد استشهاد القائد الوالي مصطفى السيد. منذ ذلك الحين، قاد عبد العزيز نضال الشعب الصحراوي لأربعة عقود، بثباتٍ لا يلين، حتى وافاه الاجل المحتوم، في 31 مايو 2016.
لم يكن عبد العزيز قائدًا سياسيًا فقط، بل كان مقاتلًا شرسًا في ساحات الوغى، تقدم الصفوف، وشارك في المعارك الكبرى ضد الاحتلال المغربي. أصيب عدة مرات في معارك الشرف، وكان جسده الموشوم بالجراح شهادةً حيةً على تضحياته. لم يكن يُوجه من بعيد، بل كان في قلب المعركة، مع رفاقه المقاتلين، يحمل السلاح كما يحمل الحلم. فتلك الجروح التي حملها حتى آخر أيامه، لم تكن مصدر ألم، بل كانت أوسمة نضال، وشاهدًا على الإيمان العميق بعدالة قضيته.
لم يكن محمد عبد العزيز ممن يسعون وراء الأضواء، ولا ممن تغريهم المناصب أو تُغريهم الهتافات. عاش متواضعًا، نظيف اليد والضمير، لم يعرف التبجيل ولا استساغ المجد الشخصي. فقد آمن، منذ نعومة أظفاره، أن القادة الحقيقيين يعيشون بين شعبهم، لا فوقه. ولهذا لم يُشاهد يومًا وهو يتلقى تحيات مصطنعة، أو يُحيط نفسه بهالة زائفة من التقديس.
كان عبد العزيز قائدًا فذًّا، لكن أيضًا أبًا حنونًا، يتفقد الشيوخ في المخيمات كما يربت على رؤوس الأطفال، لا فرق عنده بين صغير وكبير، ولا بين مقاتل ولاجئ. عرفه الجميع بابتسامته الدائمة، وتواضعه في اللباس والمظهر، ومجالسته العامة دون تكلّف أو استعلاء. لم يكن بينه وبين أبناء شعبه حواجز، وكان أكثر ما يكرهه أن يُنادى بالألقاب أو يُفرَد له مجلس.
عاش رحمه الله ومات كما بدأ: مناضلًا نظيفًا، شريفًا، زاهدًا.
رفض العروض المغرية التي قُدمت له لتغيير موقفه أو لتفكيك وحدة الصف، وكان يقول دائمًا: "كرامتنا لا تباع، وحقنا لا يُساوَم عليه." لهذا بقي ضميرًا للقضية الصحراوية، ورمزًا للاستقامة في زمن تكاثرت فيه الوجوه وسقطت القيم.
لم يفتر عبد العزيز يومًا عن الوفاء لرفاق دربه، وظل يتفقد الجرحى، ويزور العائلات الثكلى، ويعزّي هذا، ويُواسي ذاك. في كل تفاصيل حياته، كان قلبه مع الشعب، وقراره نابضًا من رحم المخيمات، وليس من وراء الكواليس أو المكاتب المغلقة.
حتى في أيامه الأخيرة، وهو يصارع المرض، لم يتوقف عن العمل من أجل حلم الدولة الصحراوية المستقلة، وظل قلبه معلقًا بخيمة اللاجئ، وعيونه شاخصة نحو الأراضي المحتلة.
رحل محمد عبد العزيز، لكنه ترك إرثًا أخلاقيًا ونضاليًا لا يمكن أن يُنسى. ترك جيلًا من المناضلين الذين تربوا على يده، ونهلوا من حكمته. ترك قضيةً نقيةً، لا تزال تتحدى الزمن، وترفض الذوبان في صراعات المصالح.
في ذكرى رحيله، نقف اليوم وقفة إجلال، لا لنرثي جسده الذي غاب، بل لنُحيي روحه التي لا تزال تحلّق فوق خيام العزة والكرامة، وترافق كل خطوة نحو النصر والحرية.
رحم الله الزعيم محمد عبد العزيز...كان مقاتلًا وجريحًا، وكان قائدًا وأبًا، وكان إنسانًا لم تُغيّره السنوات، بل زادته صلابة وصدقًا.
سلامة مولود اباعلي