في زمنٍ تتعالى فيه الشعارات أكثر من الأفعال، وتُختزل الوطنية في ترديد أسماء بعينها، لا في خدمة الإنسان والأرض، يطلّ علينا مشهد مألوف من كواليس الرداءة السياسية: الزعيم الذي لا يُنتقد، والحاشية التي تصنع له هالة من قداسة مصطنعة، تصمّ بها الآذان، وتُكمم بها الأفواه.
إبراهيم غالي، الذي كان ذات يوم مقاتلًا في صفوف جيش التحرير الشعبي، تحوّل في أعين المصفقين إلى "الرمز الأوحد"، والحديث باسمه صار معيارًا للولاء، والخروج عن ظله بات خيانة. وبدل أن يكون رأسًا سياسياً يتقدّم بالمشروع الصحراوي نحو أفق أرحب، صار هو المشروع نفسه، في شخصنته، في قراراته، وفي كل تعثر يُعاد تغليفه بخطاب "التهديد الخارجي".
إن ظاهرة التبجيل المرضي التي تحيط بغالي اليوم ليست جديدة على الشعوب، المتخلفة، لكنها دائمًا مدمّرة. فكم من زعيم رفعته الهتافات، ثم أسقطه الواقع؟ وكم من قائد صنعت له الجماهير تماثيل، ثم أسقطتها بحجارة الوعي المتأخر؟ التقديس لا يصنع مجدًا، بل يُجهض النقد، ويُعمّق الغفلة، ويفتح الباب أمام الانتهازية والفساد.
ما يُمارس حول غالي ليس دعمًا سياسيًا واعيًا، بل صفاقة مديح، يغذيها إعلام رسمي، وأبواق لا تتردد في منح "الدروع التقديرية" كلما تعثّر الواقع. فبدل أن نواجه القصور في المخيمات، وتآكل الثقة، وتكلس المؤسسات، نغرق في حفلات تمجيد، يوزع فيها الولاء كالغنائم.
لكننا نعرف مصير هؤلاء الذين ركبوا موجة المجد الزائف:
روبرت موغابي (زيمبابوي)، الذي أطاح بالاستعمار الأبيض ليُعيد إنتاج الاستبداد الأسود؛
عيدي أمين (أوغندا)، الذي نكّل بشعبه وافتخر بوحشيته؛
جان-بدل بوكاسا (إفريقيا الوسطى)، الذي نصّب نفسه إمبراطورًا على شعبٍ جائع؛
ونيكولاي تشاوشيسكو (رومانيا)، الذي جعل من رومانيا مزرعة عائلية تُدار بالحديد والنار، حتى أطاح به شعبه في مشهد يُدرّس حتى اليوم.
شعوبهم لا تذكرهم إلا بوصفهم عبئًا ثقيلًا على حاضرها، ولعنة في سجلها السياسي. لم يكن المشكل في شخصهم فقط، بل في جوقة المصفقين التي صنعت لهم واقعًا موازياً من الوهم والكذب.
قال الله تعالى:
"واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين" [الأعراف: 175]
هكذا تكون النهاية حين تُعرض الحقائق وتُقدَّم الأهواء، وتُختزل القضايا في الأشخاص، وتُمنح الوطنية شهادات حسب درجة الانحناء أمام الزعيم.
مصير الزعيم، عندنا، إن لم يراجع نفسه، وإن لم يصغِ لصوت النقد، لن يكون مختلفًا كثيرًا. التاريخ لا يُجامل. ومن خَدَمَ شعبه، يظل في ذاكرته، ومن خدعه، يُمحى… وإن رُفِعَ على أكتاف المديح ألف مرة.
بقلم الكاتب : سلامة مولود أبا علي