إن فرنسا ليست اليوم في المنزلة التي تفرض فيها شروطها على أي كان فالتلويح بالتهديد والوعد والوعيد علامة على الضعف والارتباك على مستوى مركز القرار السياسي. فإذا كان اليمين الفرنسي يدفع بقوة في اتجاه تعميق الأزمة الحالية مع الجزائر بإعداد إجراءات انتقامية معينة، من حرمان حاملي جوازات سفر دبلوماسية من دخول الأراضي الفرنسية دون تأشيرة، وطلب إلغاء اتفاقية 1968 بين البلدين وجعل من موضوع الهجرة الشماعة التي يعلق عليها كل مشاكل فرنسا، فإن ذلك لا يعكس سوى انحطاط المستوى السياسي الذي وصلت له النخبة الحاكمة في باريس بحيث تتعارض وتتناقض تصريحات المسؤولين الفرنسين فيما بينهم، فهذا وزير الداخلية برونو روتايو يقفز على صلاحيات وزير الخارجية ويهدد بملء شدقيه الدولة الجزائرية إذا لم تتعاون حسب زعمه في موضوع تسليم رعاياها المدعوين لمغادرة التراب الفرنسي، وهذا رئيس الحكومة فرانسوا بيرو يتقمص صفة رئيس الدولة ليهدد بإلغاء اتفاقيات 1968، وهذا آخر يطلب تأديب الجزائر ويختلط البقر على القوم في باريس الرئيس ماكرون يسارع لترتيب أثاث بيته في حوار نشرته صحيفة le figaro يوم الرابع من الشهر الجاري ويقطع لسان رئيس حكومته بالقول: "إن الجزائر تتعاون في مجال إعادة استقبال مواطنيها المقيمين بطريقة غير شرعية في فرنسا . إن رقم ثلاثة آلاف تصريحقنصلي الذي منحتهم الجزائر سنة 2024 لترحيل مواطنيها ليس سيئا مقارنة بباقي دول المغرب العربي. وسبق أن نشرت صحيفة TSA الجزائرية في عددها ليوم الثامن والعشرين من فبراير الماضي في نفس الاتجاه مقالا يعري مغالطات اليمين الفرنسي، حيث كتبت " إن إبعاد الرعايا الجزائريين الذين يتوجب عليهم مغادرة الأراضي الفرنسية لم يتوقف في عام 2024، حيث تم تنفيذ 2500 عملية طرد تجاه الجزائر، وفي عام 2023 بلغ هذا الرقم 2562، مما يجعل الجزائر الدولة الرائدة من حيث حالات الطرد متقدمة بفارق كبير على المغرب بـ 1104 وتونس بـ 887.
إن اليمين الفرنسي المتطرف أصيب بمرض العظمة والغرور الزائد إلى درجة أن رئيس الحكومة فرانسوا باير ويعود ليهدد الدولة الجزائرية ويحدد لها ستة أسابيع لاستعادة المرحلين، ليأتيه الرد سريعا برفض الجزائر للمهل والإنذارات، الشيء الذي قلب الطاولة على هذا التيار الحاقد الذي يريد الحصول على مكاسب سياسية قبل الانتخابات العامة القادمة.
لقد نسيت فرنسا تحت هالة الفطرسة والتكبر أنها ليست في موقع يسمح لها بفرض إملاءاتها وشروطها على الآخرين فهي إضافة إلى أزمتها السياسة العميقة، وضعها الاقتصادي ليس بأحسن حال، فيكفي الإشارة بأن الدين العام للدولة الفرنسة وصل هذه السنة إلى 7.113% من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت وكالة "موديز" قد حذرت من أن الديون قد تستمر في الارتفاع حتى عام 2030 مما يزيد المشاكل المالية المستمرة في البلاد، فضلا عن تساعد تكلفة خدمة الديون التي من المقدر أن تصل إلى 80 مليار سنة 2027 حسب اعتراف محافظ البنك المركزي الفرنسي. إن هذه الأرقام تضع فرنسا بين الدول الأكثر مديونية في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان وإيطاليا.
على المستوى الخارجي، أصبحت فرنسا كالبعير الأجرب لا مبكا لها يتقلص نفوذها يوما بعد آخر في إفريقيا، فهي تخسر دول الساحل جميعها وتطرد من السنغال ويتم كنسها من أكثر من مكان، فعلاقة فرنسا الرسمية تدهورت ليس مع البلدان الإفريقية فحسب بما بما في الجزائر، بل أيضا مع تركيا، البرازیل، ایران، روسيا مع كاليدونيا الجديدة وغيرها، لكن أكثر ما ماع تخشاه فرنسا اليوم هو تقليص نفوذها على الساحة الأوروبية أمام القوة الألمانية الصاعدة، الغريم التاريخي لباريس، خاصة بعد أن أعلن المستشار الألماني، يوم الخميس الماضي، على هامش اجتماع رؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي ببروكسيل، بأن ألمانيا متراجع دستورها بالشكل الذي يطلق يدها للتسلح السريع بعدما كانت مقيدة منذ الحرب العالمية الثانية. وقالت صحيفة "وول ستريت جورنال"، إن "ألمانيا تفكر في امتلاك السلاح النووي بعد تفاهم الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي ، إن ألمانيا قادمة كقوة اقتصادية وعسكرية لا منافس لها على الساحة الأوروبية، الشيء الذي يزعج قصر الإليزي ولا ترتاح له فرنسا.
من هنا ندرك مستوى النرفزة والهستيريا التي أصابت سياسيو فرنسا وإخراج اليمين المتطرف حقده التاريخي على الجزائر، خاصة إذا ما عرفا بأن مشكلة فرنسا الكبيرة هي خسارتها للسوق الجزائرية الواعدة. كما ذكر الخبير في الشؤون الاقتصادية والنائب السابق بالمجلس الوطني الجزائري السيد أحمد خليفة، في حوار له مع "الشروق"، عن أن الأوليغارشية الفرنسية خسرت في فترة حكم الرئيس عبد المجيد تيون 18 مليار دولار في إطار مشاريع مختلفة، منها عقد شركة مترو الجزائر، عقد شركة "سيال" للمياه، حصة "أنا داركو" التي كانت شركة توتال الفرنسية ستستحوذ عليها بمبلغ 5.5 مليارات، ثم وقف استيراد القمح، بالإضافة إلى مجموعة من المشاريع التي كانت ستأخذها مكاتب الدراسات الفرنسية والمقدرة بـ 10 ملايير دولار". إن فرنسا لن تسمح للجزائر فتحها الباب الدول أخرى للاستثمار عندها، فالمنافس الألماني العملاق استفاد من الاستثمار في مجال معدات الصناعة الغازية والنفطية ولإنتاج الهيدروجين الأخضر والجارة إيطاليا في مجال المحروقات والزراعة والصناعة بملايير الدولارات ودولة قطر في مجال الحديد والصلب وشركة "بلدنا" القطرية تستثمر 5.3 مليار دولار بمشروع للحليب وعودة إسبانيا للتقرب من الجزائر ولو بصورة محتشمة دون ذكر المشاريع الكبرى في البنية التحتية التي تقوم بها الصين والاستثمارات التركية التي تأخذ منها تصاعديا منذ زيارة الرئيس تبون إلى أنقرة في ماي 2022
تصاعديا منذ زيارة الرئيس تبون إلى أنقرة في ماي 2022.
ردية كي ت جاه ميا
يض فلا ارة تهاء يق في به
لقد قال ديغول في مذكراته "الأمل": إن الجزائر جعلت فرنسا رجل أوروبا المريض. اليوم نرى أن الجزائر الجديدة تجعل من فرنسا المكرونية الرجل المشلول الذي ليس له إلا لسانه للتهديد والوعيد، لكن ذلك لا ينفع. فالمشاكل مع الجزائر يقول الوزير الفرنسي للخارجية السابق السيد دومينيك دوفيليان: "لا تحل بتصريح في نشرة الثامنة لقناة "تي. أف 1"، أؤكد لكم أن القبضة الحديدية لا تجدي نفعا خاصة مع دولة مثل الجزائر، حيث الحس الوطني متجذر، أضف إلى ذلك أننا تربطنا بها قصة أليمة. إننا ننصح فرنسا أن تنظر إلى وجهها في المرآة حتى تعرف حقيقتها وتنزل عن عرش الكبرياء والغرور.
بقلم: محمد فاضل الهيط صحفي من الصحراء الغربية