القائمة الرئيسية

الصفحات

ماذا لو فكرت موريتانيا بصوت عالٍ خارج الصندوق؟


في عالم يتغيّر بسرعة، لم يعد مقبولاً أن تبقى الدول الصغيرة رهينة لمنطق التبعية أو الخوف من التغيير.
 موريتانيا، هذه البلاد الغنية بالموقع والمقدرات، عاشت طيلة العقود الماضية على هامش المعادلات الدولية، في منطقة شديدة الحساسية استراتيجياً. وفي كثير من الأحيان، رهنت نفسها لحياد سلبي أو لتبعية رمزية لمحاور لم تُنتج لها لا تنمية ولا أمنًا.
بلادنا تمتلك مقدرات مؤكدة تُقدّر بأكثر من 3 تريليونات دولار، ومقدرات استراتيجية متوقعة قد تتجاوز 12 تريليون دولار عند تأكيدها. ومع ذلك، تُحاط موريتانيا بحزام من المشاريع الكبرى في محيطها، بينما يُلقى إليها بالفتات، ويُراد لها أن تكون ممرًا للمصالح لا مقرًا للاستثمارات اللوجستية عالية العائد.
وكلما سعت موريتانيا للدفاع عن مصالحها السيادية، وقرّبت المسافة نحو الشرق، أغضبها الغرب، وإذا اقتربت من الغرب، ثار الشرق. وإذا حاولت تحقيق مصالح واضحة مع الجزائر، أغضب ذلك المغرب، وإن مدّت اليد للمغرب، لم تحصد شيئاً وأغضبت الجزائر والصحراويين . وإن نسقت مع "الإيكواس" غضب منها حلف الانقلابات الجديد، وإذا فتحت قنوات مع محور باماكو، توترت العلاقة مع "الإيكواس" والجزائر.
أما دول الخليج، فبعضها لا يريد من موريتانيا سوى التطبيع المجاني والانضمام إلى محاورها، بينما "محور المقاومة" يريدها في صفّه الكامل. والنتيجة لا أحد يقف فعليًا إلى جانب موريتانيا كما يجب.
والأسوأ من ذلك أن البلاد أصبحت تُستخدم كحوض استقبال لغسيل إقليمي ودولي قذر: الهجرة غير النظامية، الجريمة المنظمة، المخدرات، الأدوية المغشوشة، العملات المزورة، والحروب الناعمة والهجينة.
أما أوروبا، فترى في موريتانيا مجرد "حائط صدّ" أمام الهجرات والتمدد الروسي – الصيني في الساحل، فيما يسعى حلف الناتو إلى تحويلها إلى خط متقدم بلا مقابل حقيقي.
لكن ماذا لو قررت موريتانيا أن تُفكر خارج الصندوق؟
فلنطرح ثلاثة سيناريوهات استراتيجية:
السيناريو الأول: الارتماء في الحضن الشرقي
يقوم هذا الخيار على التحالف الصريح مع المحور الشرقي (روسيا، الصين، وربما إيران وكوريا الشمالية)، ويشمل:
منح قواعد عسكرية في المحيط والصحراء.
الانخراط الكامل في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
اعتماد التكنولوجيا والأسلحة والبنى التحتية الروسية والصينية.
التموضع الدبلوماسي كمُعادٍ للمحور الغربي في القضايا الإقليمية والدولية.
نقاط القوة والمكاسب:
حماية عسكرية من قوى لا تشترط الديمقراطية ولا تتدخل في الشؤون الداخلية.
تمويل مشاريع بنى تحتية كبرى.
دعم سياسي في المنظمات الدولية.
نقاط الضعف والمخاطر:
عزلة غربية محتملة وعقوبات اقتصادية.
تدهور العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
استعداء مباشر أو غير مباشر للجزائر وبعض دول الجوار.
السيناريو الثاني: التموضع الكامل في المحور الأمريكي
يشبه هذا الخيار التجربة الخليجية في التحالف مع واشنطن، ويتضمن:
منح الولايات المتحدة قاعدة بحرية على المحيط الأطلسي وأخرى عسكرية في عمق الصحراء.
إقامة مشروعات أمنية مشتركة في المراقبة، الاتصالات والطيران.
التبعية شبه الكاملة في التسليح والتمويل لمؤسسات أمريكية.
نقاط المكاسب والفرص:
استثمارات أمريكية مباشرة في قطاعات الطاقة والمعادن.
دعم سياسي في المؤسسات الدولية.
نقاط القوة:
مظلة أمنية قوية.
تمويل سخي للمشاريع الاستراتيجية.
نقاط الضعف والمخاطر:
استعداء قوى الشرق وربما فقدان شركاء محتملين.
استخدام القواعد الأمريكية لأجندات تتعارض مع المصالح الوطنية.
رفض داخلي شعبي وتوترات سياسية.
توتير العلاقة مع الجزائر وجيران أفارقة آخرين.
*السيناريو الثالث: التموضع الذكي السيادي (الموازنة الاستراتيجية)*
هذا السيناريو يُبنى على فكرة أن موريتانيا ليست بحاجة إلى الاصطفاف خلف أي محور، بل إلى بناء موقع تفاوضي مستقل يخدم مصالحها العليا، وذلك عبر:
تعزيز العلاقات المتوازنة مع القوى الكبرى شرقًا وغربًا.
طرح البلاد كمنصة استقرار وتكامل إقليمي، لا كساحة تنافس أو صراع استخباراتي.
إنشاء مناطق استثمار خاصة مفتوحة للجميع، بشروط شفافة ومحمية وذات جدوى وطنية.
تحويل الموقع الجغرافي إلى مركز ربط اقتصادي ولوجستي بين الشمال والجنوب، وبين إفريقيا والمغرب العربي وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
الاستفادة من العروض الصينية والروسية دون التفريط بالشراكات الغربية.
نقاط القوة:
تنويع الشركاء وتقليل التبعية.
تعزيز سيادة القرار الوطني.
جذب استثمارات متعددة المصادر.
حفظ التوازن الجيوسياسي دون استعداء أي طرف إقليمي.
نقاط الضعف والتحديات:
الحاجة إلى دبلوماسية نشطة ومؤسسات قوية قادرة على إدارة هذا التوازن.
صعوبة الحفاظ على الحياد في بيئة دولية متصارعة.
وجود لوبيات داخلية وخارجية مرتبطة بمحاور متضاربة.
تصاعد الحروب الناعمة والانقسامات السياسية الداخلية بفعل هذا التموضع.
الخلاصة
موريتانيا لا تحتاج وصيًا جديدًا، بل رؤية جديدة
لقد أثبت التاريخ أن الارتهان الأعمى لأي محور – شرقيًا كان أو غربيًا – يحمل ثمناً باهظًا في السيادة والهوية والمصالح بعيدة المدى. وفي الوقت ذاته، فإن الاكتفاء بحياد سلبي أو توازن حذر غير مجدٍ استراتيجيًا، لم يجلب لموريتانيا تنميةً ولا أمنًا.
لهذا، فإن السيناريو الثالث – التموضع الذكي السيادي – هو الأجدر بالمتابعة، لأنه:
يُعظّم الفرص،
يُقلل من المخاطر،
ويحافظ على علاقات متوازنة دون استفزاز الجوار أو القوى الكبرى ويعيد لموريتانيا دورا إقليميا وقاريا تستحقه
و يمكن القول إن هذا المسار هو الأقرب إلى خيار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي تبنّى مقاربة متوازنة في السياسة الخارجية، تُراعي خصوصية البلد وتوازناته الدقيقة.
غير أن التحدي الحقيقي اليوم، هو الانتقال من "التوازن الحذر غير المجدي" إلى "التوازن النشط ذي الجدوى الاستراتيجية"، الذي يليق بدولة كموريتانيا، غنيّة بالمقدرات، وموقعها الجيوسياسي يؤهلها لتكون حلقة ارتكازية بين الشمال والجنوب، وبين العرب والأفارقة.
فقدر موريتانيا أن تؤدي هذا الدور – لا كمنطقة فراغ جيوسياسي، بل كجسر للتواصل والتكامل.
وذلك لن يتحقق إلا عبر رؤية موريتانية مُعلنة، تُطرح كمبادرة شاملة ذات بُعد اقتصادي وسياسي وأمني، لا تستثني أي طرف دولي مهتم بالإقليم، ولا أي دولة من دوله.
رؤية تُؤسس لتحالفات تقوم على قاعدة المصالح المشتركة، وترتكز إلى مفاهيم التنمية الشاملة، لا إلى الاصطفافات الصراعية.
إنها مبادرة موريتانيا لخلق أمل جديد في المنطقة. أمل يُبنى على التعاون لا العداء، وعلى تحويل الجغرافيا إلى منصة سلام لا ساحة صراع.
ولن نستغرب إعلان الرئيس ولد الغزواني عن مبادرة بذلك المحتوى ، فقد لمسناها في خطاباته عن عقد الإقليم وحلوله ، ما يكشف عقلا استراتيجيا عنده على النخب الوطنية أن تكون له عونا في تحقيق رؤيته لموريتانيا كما يجب أن تكون.
فلم يعد آمنا أن تبقى الدول الصغيرة بلا مظلة إقليمية ودولية تصنع عبرها مصالح مشتركة وتحميها في عالم متوحش لا مكان فيه للضعفاء والمترددين في صناعة القرار الاستراتيجي .
مركز دعم صناعة القرار الوطني
بقلم الرئيس عبد الله ولد بونا
20مايو2025

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...