وكان إبراهيم رسول قد اتهم ترامب بأنه يقود حركة عنصرية بيضاء، والسفير رسول معروف، مؤيد صلب للفلسطينيين ومعاد للصهيونية، لكن مسألة الخلاف أعمق من قضية تصريحات من سفير أو وزير، بل تعود جذورها إلى موقف جنوب افريقيا من حرب الإبادة على غزة، وموقفها الشجاع بالتقدم بشكوى رسمية لمحكمة العدل الدولية، للنظر في ما يجري في غزة، إن كان ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية التي نصت عليها «المعاهدة الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، التي تم اعتمادها بتاريخ 10 ديسمبر 1948، فمنذ تولي ترامب دورته الثانية واعتماده على أيلون ماسك الجنوب افريقي، وهو من الأقلية البيضاء، وخطوات ترامب لم تتوقف عن استهداف جنوب افريقيا.
منذ تولي ترامب دورته الثانية واعتماده على أيلون ماسك الجنوب افريقي، وهو من الأقلية البيضاء، وخطوات ترامب لم تتوقف عن استهداف جنوب افريقيا
لقد اتهم ترامب، وبالتأكيد بناء على وشوشات ماسك، بأن الأقلية البيضاء في جنوب افريقيا مضطهدة وتتعرض لحرب إبادة اقتصادية، لأن حكومة الغالبية السوداء تسعى لتجريدهم من أراضيهم وممتلكاتهم وشركاتهم. وقد كرر ترامب هذا الافتراء في دورته الأولى مدعيا أن الغالبية السوداء تقتل البيض، وتستولي على ممتلكاتهم، وما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فمثلا معدل الجريمة في جنوب افريقيا يصل إلى مقتل 69 شخصا في اليوم غالبيتهم الساحقة من السود، بينما لم يتعرض للقتل خلال عام 2024 إلا 26 شخصا من الأقلية البيضاء.
أما الأراضي والاقتصاد، فما زالا في أيدي الأقلية البيضاء بشكل شبه مطلق، خاصة البنوك ومناجم الماس والذهب. وما زال 7 في المئة من الأقلية البيضاء يملكون 72 في المئة من الأراضي الزراعية. وكانت حكومة الأبرثهايد قد شرّعت عام 1913 «قانون الأراضي» الذي جرد 93 في المئة من الأراضي ومنحها للأقلية البيضاء. وما قامت به حكومة جنوب افريقيا من إقرار قانون جديد للأراضي عام 2024 يهدف إلى استخدام الأراضي العامة للصالح العام، ولا يشمل القانون الأراضي الخاصة، ولا يتم تأكيد اقتطاع الأراضي العامة للصالح العام إلا بعد مراجعة قانونية. والقانون قد يستفيد منه فقراء السود وفقراء البيض (إن وجدوا) حيث يمكن أن يمنحوا أرضا من أراضي القطاع العام لاستصلاحها والتكسب منها. لكن ترامب الذي لا يقرأ ولا يتابع إلا ما يقدم له من معلومات وتقارير من المقربين منه، قام بقطع المساعدات عن جنوب افريقيا التي كانت تقدم للمساهمة في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (الإيدز). والمساهمة التي كان تتلقاها جنوب افريقيا عن طريق وكالة المساعدة الأمريكية (USAID) لا تتجاوز 17 في المئة من برنامج الدولة لمكافحة الوباء. كما قامت واشنطن بتعيين ليو برنت بوزيل، سفيرا في جنوب افريقيا، وهو من أشد أنصار الكيان الصهيوني، الذي كان يصنف حزب المؤتمر الوطني الافريقي الذي كان يقوده نيلسون مانديلا بأنهم حزب إرهابي، ثم قام الرئيس ترامب بتوقيع مرسوم رئاسي يقاطع فيه محكمة الجنايات الدولية، التي صنفت كلا من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع غالانت بأنهما مجرما حرب، ويجب تقديمهما للعدالة، وينص المرسوم على فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، لاتهامها بمباشرة إجراءات قضائية لا أساس لها ضد الولايات المتحدة وحليفتها المقرّبة إسرائيل. ويحظر النص الذي نشره البيت الأبيض، دخول مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها وعناصرها إلى الولايات المتحدة، وكذلك أقرب أفراد عائلاتهم، وكل من قدم مساعدة في تحقيقات المحكمة، كما يلحظ المرسوم تجميد أصول جميع هؤلاء الأشخاص في الولايات المتحدة. والولايات المتحدة ليست عضوا في نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة وجعلها جهازا مستقلا عن الأمم المتحدة. أما محكمة العدل الدولية فهي جهاز رئيسي من أجهزة الأمم المتحدة ولا تحتاج إلى اعتراف أحد لأن مجرد الانضمام لعضوية الأمم المتحدة، يعني قبول المحكمة وما يصدر عنها. وبما أن فتاواها ليست ملزمة، إلا إذا اتفق على ذلك بين الطرفين المتخاصمين، لذلك لا يرى ترامب وثلته ضرورة لمعاقبة المحكمة، لكنه يستطيع أن يهدد القضاة ومن بينهم قاض أمريكي، بعقوبات فردية.
أما الأسباب الأخرى التي كانت وراء التوتر بين الولايات المتحدة وجنوب افريقيا، هو دور جنوب افريقيا في إنشاء وتطوير وتمتين مجموعة الـ»بريكس» التي تضم في عضويتها الصين وروسيا والهند والبرازيل قبل توسيعها. لقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لجنوب افريقيا كما أن علاقاتها مع روسيا في أوج متانتها، وهذه المجموعة تحاول أن تشكل قطبا عالميا جديدا يخفف أو يساهم في حلحلة الهيمنة الأمريكية. وهناك تبادلات تجارية ضخمة، قد لا يكون الدولار هو العملة الوحيدة المستخدمة بين دول المجموعة.
وما أثار حنق الولايات المتحدة ضد جنوب افريقيا أيضا ضم إيران للمجموعة وإعطاؤها فرصة لتخفيف آثار الحصار الشامل الذي فرضته الولايات المتحدة عليها. وتتهم واشنطن جنوب افريقيا بالتعاون مع إيران في كل المجالات، بما فيها الميدان النووي. وقد أثار بعض أعضاء الكونغرس مسألة فرض عقوبات على جنوب افريقيا بسبب هذا التعاون.
رد جنوب افريقيا
رد رئيس جنوب افريقيا سيريل رامافوزا، على تهديد ترامب بقطع المساعدات عن بلاده، بسبب «مزاعم بسوء معاملة المزارعين البيض»، نافيا ادعاء ترامب بأن السلطات «تصادر الأراضي». وقال على منصة «إكس»: إن «جنوب افريقيا دولة ديمقراطية دستورية متجذرة بعمق في سيادة القانون والعدالة والمساواة. لم تصادر حكومة جنوب افريقيا أي أراض من البيض. نتطلع إلى العمل مع إدارة ترامب بشأن سياستنا لإصلاح الأراضي والمسائل التي تهم الجانبين». وأضاف أنه في حين كانت الولايات المتحدة شريكا استراتيجيا سياسيا وتجاريا رئيسيا، إلا أنها لم تقدم تمويلا كبيرا لجنوب افريقيا سوى في برنامج رئيسي للمساعدة في علاج فيروس نقص المناعة البشري «الإيدز». ويبدو أن ترامب واتهاماته لم تجد لها سوقا لدى الأقلية البيضاء في جنوب افريقيا فقد عرض ترامب منح وضع اللاجئ للمزارعين الأفريكانيين (البيض) المضطهدين، لكن دعوته لم تقنع سوى نحو 8 آلاف شخص. إن أفضل ما يمكن أن تقوم به حكومة جنوب افريقيا هو تمتين علاقاتها مع دول الجنوب ومجموعة الـ77 والصين ورفع مستوى التبادل التجاري مع مجموعة البريكس الموسعة. ويا ليت الدول العربية تمد يد التعاون مع جنوب افريقيا في المجالات الاقتصادية والاستثمارات، لتدعم هذا البلد العظيم، الذي رغم كل الضغوطات، ما زال ينتصر للحق والعدالة والقانون في كل مكان خاصة في فلسطين.
- عبد الحميد صيام - كاتب فلسطيني