*أمحمد خداد، يوم إلتقطت أخر صورة للرجل نادر الظهور الذي يوصف بعقل وصندوق الملفات الأكثر حساسية*
كان ذلك مع نهاية العام 2018، ولا أعرف صراحة لماذا كنت مصرا في ذلك اليوم على أن ألاحظ بفضول خطواة الرجل ومتابعة تحركاته المثقلة وهو يتنقل بين جموع المواطنين والمواطنات، منهمك وسط الشعب في جني ثمار عرق الجبين.
في ذلك اليوم كنت في مهمة الى ولاية الداخلة رافقني خلالها صديقي وأخي العزيز المخرج والمصور الطاهر مولاي الزين.
كان الرجل النادر الظهور والذي عرف بالعمل بعيدا عن الأضواء والذي يعتبر صندوق الكثير من الأسرار والملفات الحساسة الخاصة بالقضية، الرجل الذي نال ثقة الرئيس الراحل الشهيد محمد عبد العزيز، كان يجلس بكل عفوية وتواضع، فبالكاد إستطعت التعرف إليه وسط الجموع الغفيرة التي ملأت المزرعة مع بداية مهمتي في ذلك اليوم.
أخذت أتابع خطواته وألتقط له صورا بهاتفي النقال كلما ممرت به بين الحين والأخر، ألتقط الصور له كواحد من الناس العادية وهي -اي إلتقاط الصور- هواية شخصية أمارسها في إطارها المسموح الواضح لأغراض نبيلة استمتع بها بعيدا عن عملي الصحفي الرسمي حتى وإن لم أستعمل تلك الصور مطلقا.
قلت؛ كنت ألتقط الصور للناس وهو واحد منهم بينما كنت أرافق زميلي الطاهر أساعده في أخذ مقاطع الفيديو بين الحين والأخر بكامرة التلفزيون الوطني، نتنقل بين التجمعات داخل المزرعة لتحضير مادةة كافية لعمل التقرير الصحفي الاخباري للنشرة الرئيسية في ذلك اليوم.
وصراحة أنا لا أدري لماذا فعلت ذلك بإصرار مع أمحمد خداد تحديدا في ذلك اليوم، فنادرا ما ألتقط الصور الشخصية للمسؤولين تحديدا خارج نطاق عملي كصحفي في وسيلة إعلام رسمية.
كان الرجل يتنقل بين الحقول وعندما لاحظت أن العمل تحت الشمس الحارة أشرف على نهايته مع منتصف النهار إقتربت منه فقلت له: الأخ امحمد خداد هل يمكن أن تعطينا تصريح؟، إبتسم ثم قال لي: أنا هنا كمواطن ويمكنك أن تسأل أهل الشأن، قلت بإصرار الصحفي المزعج: أنا أريد تصريح لك كمواطن، ضحك كثيرا رحمه الله دون قهقهة ثم تحدث إلي بصوت هاديء ورقيق وقال لي وهو يبتسم: "طيب أغلبتني".
وقف الرجل وكان يتصبب عرقا كأنه محرج او كأنه إنسان خجول لم يعتد التصريح امام الكامرة، ثم قال لي بإسم الله وأعطاني التصريح المقتضب والذي سيكون أخر تصريح له من داخل المخيمات.
في ذلك اليوم كان الرئيس يجلس منهمك هو الأخر في الحصاد، إقتربت منه وقلت له: الأخ الرئيس أنا أريد تصريح لك، نظر إلي ثم قال: أشلاهي أنگول قاع أنت ترى المواطنين هم من قاموا بكل شيء منذ إنطلاق عملية الحصاد عبر كامل الولايات، لكنني أخبرته اننا أخذنا فعلا عشرات الإنطباعات للمواطنين قبل أن نقترب منه.
في ذلك الوقت إلتحق بنا الأخ أدة أحميم وزير التنمية أنذاك فقلت له الأخ الوزير ساعدني في إقناع الرئيس يعطينا تصريح في ختام هذه العملية التي رافقها كمواطن منذ البداية بولاية العيون وحتى اليوم ختاما بولاية الداخلة، لابد أن ننجج في إقناعه بأن يعطينا تقييم للعملية وهي فرصة للإشادة بجهود المواطنين والمواطنات، كان الرئيس يستمع الى حديثنا بالقرب منه وهو يبتسم ثم طلب مني فجأة وزميلي الطاهر إعداد الكامرة لأخذ التصريح، ثم أعطانا أياه، ومباشرة عندما أكمل تقييمه للعملية مشيدا بجهود المواطنين ومستحسنا جني عرق الجبين سألنا الرئيس مازحا وهو ينظر إلى أمحمد، هل أخذتهم تصريح لأمحمد خداد أيضا، كان أمحمد خداد ينظر إلينا في هدوء وسكينة ورزانة معهودة للرجل ثم قال مجيبا على الرئيس: "ألا گلعوه مني وتوف".
كان الجو في ذلك اليوم رائعا وكانت الشمس في منتصف السماء وكان المواطنين والمواطنات قادة وقاعدة يجنون ثمار حصاد العرق والجهد طوال عام كامل في محاولة مدهشة ومحترمة تدعوا للفخر لخلق نوع من الإكتفاء الذاتي وزرع ثقافة الإعتماد على النفس.
قدر لي أن أكون حاضرا ذلك اليوم لألتقط أخر صور وأخر تصريح في آخر ظهور للرجل بمخيمات العزة والكرامة.
سيمرض الراحل بعد أيام من هذا الحدث وسيشخص الأطباء إصابته بمرض السرطان وسيتابع العلاج بكل شجاعة وإيمان بالقضاء والقدر فالرجل الذي يقول رفاق دربه بأنه آلة تعمل في الخفاء لا تتوقف عن التحرك والإنتاج، كان أيضا يعاني في صمت، مهموم بقضايا شعبه منهمك في الملفات الأكثر حساسية وتعقيدا بعيدا عن الأضواء.
قبل هذا اللقاء الأخير كنت إلتقيت الرجل بالعاصمة الإيطالية روما، هناك وداخل ومن على منصة المبنى الأكبر في هذا البلد الأوروبي، في ذلك اليوم حيث وقف وصفق كبار القادة الإيطاليين لكلمة غاية في الدقة من أداء وخيال وتحرير رجل أنيق ومثقف، سياسي من الطراز الرفيع إسمه أمحمد خداد وتلك حكاية أخرى أتمنى أن يعطيني الله العمر لأكتب عنها ذات يوم.
رحم الله أمحمد خداد وكل الشهداء والمناضلين الذين رحلوا قبل بزوق شمس الحرية، اللهم ونحن نخرج من شهر فضيل أغفر لهم جميعا وأسكنهم فسيح جناتك يا رب العالمين إنك سميع مجيب ..
عبداتي الرشيد