تعتمد الملكية غالبا على أسس تستمد منها مشروعيتها من أهمها مشروعية التغلب بالقوة أولا ثم مشروعية الإنجاز بحماية ثوابت الأمة وتحقيق المصالح العامة بعدالة تحمي المنافسة وتححق المصالح العليا للأمة.
وقد تأخذ الملكية أشكالا دستورية وقانونية تركز كل السلطات في يد الملك أو تقلصها مقابل سلطات دستورية أوسع للحكومة ؛ ولا ينجح ذلك إلا في ظل ملكيات دستورية ناجحة وناجعة تحت مظلتها نخبة سياسية قوية حزبية ومجتمع مدني واع وممارسات ديمقراطية كاملة الحريات وأداء اقتصادي إيجابي قابل لتلبية أساسيات الحياة الكريمة بما فيها القدرة على تلبية مؤشرات التنمية البشرية خاصة ماتعلق منها بالقوة الشابه.
ولو عرضنا الملكية المغربية قديما وحديثا على هذا الميزان منذ الإمارة الإدريسية إلى السلطان العلوي لما وجدنا شيئا يذكر من مقومات استمرار وتمكين النظام الملكي الذي قام في أجزاء محدودة مما يسمى المغرب حاليا أو التحول الذي صار منذ العام 1956 عندما قررت فرنسا منح الاستقلال لكيان جديد خلقته وسمته المغرب
استقلالا لم يكن في الواقع إلا حكما ذاتيا للمغرب ؛ إذ ظلت السياسة الخارجية والدفاع والقرارات الاقتصادية الكبرى بيد فرنسا.
لم يكن الأدارسة قوة تغلب وهيمنة وإنما هي أسرة استفادت من الظرف السائد في المغرب الأقصى حينها والبعد العاطفي الديني اتجاه الأشراف؛ والوضع السياسي القائم في المشرق العربي حينها والذي كان فيه الأشراف محور الصراع؛ ليجدوا حاضنة بيعة من أغلبية القوة الاجتماعية في ذلك الحيز الأقصى من المغرب ؛ والذي كان لقرون تحت سلطة رومانية ، قوة اجتماعية حاضنة للأدارسة سرعان ماتفككت ليولد صراع على السلطة متعدد الأجنحة والأبعاد الخارجية أطاح في النهاية بالسلطنة الإدريسية ؛ وتشعبت ارتداداته بكل اتجاه في هجرات قبلية خارج حيز المغرب الأقصى.
ولم يشهد سلطان الأدارسة تمددا ورسوخا طيلة حكمه.
ولم يكن قيام سلطان العلويين بالأكثر بريقا فهو أيضا اعتمد على نفس الأسباب في القيام؛ بيعة محدودة في حيز محدود بدعاية دينية تستغل ضحالة تعليم ووعي القبائل المغربية التي اجتمعت حول السلطان العلوي.
ولم يكن استمرار السلطنة العلوية بسبب غلبة بالقوة ولا بمشروعية الإنجاز وحماية ثوابت الأمة ؛ بل كان بأسباب متعددة خارجية أبرزها تعاون الأسرة العلوية مع المشاريع الأجنبية الاستعمارية المستهدفة للمغرب نفسه ولشمال وغرب إفريقيا.
لقد انحازت الأسرة العلوية مبكرا لكل قوى الاستعمار في المغرب العربي وخدمتها واصطفت معها ضد الوطنيين في جمهورية الريف وضد الوطنيين في المقاومة المغربية وضد المقاومة الجزائرية العظيمة.
وظلت عمليات تصعيد السلطان وولي عهده قرار حصريا لفرنسا حتى وضعت مستعمراتها فيما يسمى المغرب حاليا تحت الحماية الاستعمارية المباشرة ليكون الحاكم الفرنسي اليوتي (الليوطي) هو السلطة المرجعية المطلقة.
وظلت مهمة السلطان العلوي هو اعتماد وتنفيذ كل السياسيات الفرنسية الإقطاعية لوضع اليد على الأراضي الزراعية المغربية وعلى العقارات الثمينة وحماية المصالح الفرنسية أولا بالمغرب.
وضع استمر بعد إعلان المملكة المغربية عام 1956 وتحويل لقب السلطان العلوي فيها إلى ملك ثم اتخاذ لقب أمير المؤمين شعارا دينيا.
وبمرور سريع على التاريخ الحديث للمغرب يتضح أن فرنسا جاءت بملكها المتوج محمد الخامس من جيبها الاستعماري ولم يكن تنصيبه ملكا خاضعا لأي معيار سوى معيار مصالح فرنسا؛ لذلك واجه العرش العلوي مخاطر الإطاحة به منذ لحظة إعلان حكمه للمغرب الجديد المستقل .
صورة اتضحت أكثر في سلسلة انقلابات سرية وعلنية فاشلة هي أساس الحقبة العلوية الحديثة في المغرب ؛ ولم يكن مفاجئا أن تصنع فرنسا للمغرب الذي منحته حكما ذاتيا باسم الاستقلال_طوق نجاة بادعائه وجود خطر خارجي يهدد المغرب ؛ تمهيدا لحملات عسكرية مغربية ضد الجزائر وهي تعلن استقلالها بتحريض فرنسي في حرب الرمال ثم بحملات سياسية وعسكرية ضد الصحراء الغربية وموريتانيا.
لم يكن بيد العرش ليقدمه للشعب المغربي غير الادعاء الكاذب أن كل المدى في شمال افريقيا كان تابعا لهم !
وهم أصلا لم يكونوا يوما رأس حربة وإنما ظلوا تابعا للأجنبي حتى اليوم.
لقد ادخل العرش العلوي مبكرا المغرب في دوامة صراع وحروب وكراهية سياسية ضد كل شعوب المغرب العربي حتى أصبح العرش والمغرب نفسه أسير ثقافة عدوانية دفع الشعب المغربي ثمنها تخلفا وبؤسا وانهيارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قل نظيره.
ورغم وعي الملك الحسن الثاني لعمق المأسة المغربية وقراره التاريخي بتدارك مايمكن تداركه عبر طلب وقف إطلاق النار مع جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب برعاية أممية وإقراره بحتمية تقرير مصير الشعب الصحراوي عبر استفتاء حر متعدد الخيارات ؛ إلا أن ذلك المشروع المهم للمغرب والمنطقة تم إفشاله من قبل الملك الجديد محمد السادس فغرق المغرب أكثر في دوامة الفشل المطلق .
لقد اختلق العرش العلوي فكرة الخطر الخارجي ليشغل الجيش المغربي عن مشروعاته الانقلابية ضد العرش نفسه.
لكن ذلك التكتيك رفع مستوى المخاطر على العرش واستمراره في حكم المغرب.
ولم تكن إدارة لعبة السلطة والهيمنة إلا لتزيد وتعمق أزمة العرش.
لقد ظل الملك يعتمد على قطاعين فقط لتعزيز سلطته هما قطاع الجيش والداخلية ؛ الذي ولد بينهما صراع مرير على القرب من الملك أدى إلى شرخ غائر في القوة الصلبة المغربية.
وأصبحت بقية قاطاعات الحكومة مجرد ثمن ترضية لنخب المخزن (الإدارة التي تحكم المغرب) ولنخب اجتماعية فاسدة.
إن المغرب في الوقت الراهن يشهد تآكلا متسارعا لبنيته الداخلية الاقتصادية والاجتماعية بسبب عجز الاقتصاد المغربي عن إنقاذ ذاته وعن تحمل النفقات الحكومية الأساسية وعن خلق بيئة اقتصادية وسياسية جاذبة للاستثمار .
وتكفي قراءة سريعة للبيانات الدولية الصادرة عن هيئات متخصصة لإدراك ذلك أو تفحصص البيانات والتصريحات الحكومية المغربية عن صعوبة الوضع الاقتصادي لبلادهم.
ولقد تفاقمت العقد والأزمات الاجتماعية بدرجة دفعت الرأي العام الشعبي المغربي علنا لضخ بؤسه على العالم.
ولم تعد المظلة الفرنسية كافية لتعويم العرش العلوي لذلك أضاف لها مظلة صهيونية قديمة متجددة بوقاحة.
فهناك حملة "وطنية مغربية" شاملة لتهويد المغرب وشطب دور المساجد والكتاتيب وسحب ملكيات الأراضي من الشعب المغربي لأعادتها لملاكها من الصهاينة .
وعلى المستوى السياسي والأمني والعسكري هناك تمكين حقيقي للكيان الصهيوني بمنحه قواعد عسكرية واستخبارية في الأراضي المغربية ومنحه تراخيص حصرية ضخمة في الاراضي الصحراوية المحتلة.
وتتحدث أوساط خبيرة عن تخصيص "اسرائيل" لقوة حماية ملكية للأسرة العلوية الحاكمة ولقصورها خوفا من انقلاب أصبح متوقعا ضد الملك وضد الأسرة ذاتها ؛ مع انعدام الثقة الملكية في نخبة الجيش والداخلية المنقسمة هي ذاتها على أجنحة تبرز أكثر مع تسارع تدهور صحة الملك ومايسرب من أخبار عن نيته التنازل عن السلطة لجهة لم تعلن !
يجري كل ذلك في غياب نخب حزبية سياسية قوية أو مجتمع مدني وطني متماسك ؛ فسياسة الإغراء بالمال والمناصب هدمت كل ثوابت النخب المغربية التي عرفت بنضالها الوطني قديما.
وباجتماع كل عوامل ضعف ووهن الملكية في المغرب يتضح أن مستقبلها قاتم في المغرب وأن العالم قد لا يتفاجأ بثورة الجياع في المغرب أو ثورة المظلومين أو ثورة نخب المخزن لإنقاذ نفسها من تغيير جذري قادم في المغرب لا محالة.
لقد فشلت الملكية في المغرب تماما لأنها لم تكن يوما ملكية وطنية وإنما مخلب قط للمشاريع الأجنبية المعادية لقيام دولة مغربية قوية والمعادية للأمة في شمال إفريقيا وللأمة كلها ؛ ولقد أسقطت غزة آخر أوراق التوت عن إفلاس النظام المغربي.
ولقد أصبح احتلال المغرب للصحراء الغربية هو اللعنة التي ضربت العرش في الصميم فقد هزم في ذلك المشروع التوسعي أمر هزيمة ولم يعد الشعب المغربي يقبل تبرير جوعه وبطالته ومآسيه بقصة الصحراء الغربية ؛ وكما قال يوما أحد المسؤولين الإسبان الكبار عام 2015 أن العرش سيسقط في 24 ساعة إذا أعلن الانسحاب من الصحراء الغربية ؛ فهو أيضا سيسقط إذا استمر في المكابرة بإثم احتلال الصحراء الغربية .
ويعد أي تنسيق بهدف التعاون مع المغرب هو نوع من التنسيق مع ميت .
الملكية في المغرب في مرحلة سكرات الموت والتلاشي فقد دمرت أحلام الشعب المغربي في الحياة الكريمة وارتهنت المنطقة في دوامات الصراع والكراهية.
وشعوب المنطقة وأولها الشعب المغربي هي بحاجة للتنمية والاستقرار لا مزيد من من الحروب والمؤامرات على أمنها الاستراتيجي .
ما علينا الاحترارز منه هو ارتدادات سقوط الملكية في المغرب في المدى القريب.
بقلم :
الكاتب والخبير الاستراتيجي الموريتاني عبد الله ولد بونا