اليوم المقاتل الشجاع من مؤسسي النواة الأولى للجيش المجاهد حتى الرمق الاخير اسلامة ولد السبيدي .. من سلسلة كتابات انسانية نشرت سابقا عن أناس شجعان بسطاء قل نظيرهم .. فرصة للترحم عليهم في هذا الشهر الفضيل ..
كلما كان الرجل فاضلا قل خوفه من الموت ..
في يوم كيومنا هذا غيب الموت رجل شجاع، التقيته لمرة واحدة في حياتي وكانت مجرد صدفة جميلة وكأنني عرفته العمر كله .. وهذه شهادتي عنه وهذه بعض الصور التي التقطتها للرجل ولرفاقه في تلك الرحلة الرائعة ..
" .. أيها الموت نيَّتُنا معلنة اننا نغلِبُكْ وإن قتلونا هنا أجمعين، أيها الموت خف أنت، نحن هنا، لم نعد خائفين .. " .. تميم البرغوثي
شهر أكتوبر من العام 2018 كان لي والعزيز صديقي الغالي نجيب أحمد علين شرف مرافقة كوكبة من الرجال الشجعان، مرافقتهم في رحلة شاقة، جميلة، مثيرة ورائعة ومشوقة الى كافة نواحي جيش التحرير الشعبي الصحراوي.
عندما غادرنا مخيمات العزة والكرامة ذات صباح قارس توقفت السيارات على بعد كيلمترات قليلة من الشهيد الحافظ بوجمعة، ترجل وزير الدفاع الوطني وقتها المقاتل عبدالله لحبيب البلال (الذي سيلتحق برفيقه بعد أقل من عام ونصف)، ترجل من سيارته ونادى على الرجل البسيط المقاتل محمد أوليدة (قائد الناحية العسكرية الرابعة والخامسة سابقا مدير محافظة الجيش حاليا) وقد كان وقتها مديرا للمتحف الوطني للمقاومة، كلف في تلك الرحلة وبكل تواضع وبساطة بمرافقتي والصديق نجيب كسائق للسيارة التي تقلنا، بعد دقائق عاد محمد ليخبرنا بما قاله الوزير وأننا سنكون ضمن السيارات الاربع التي سترافق الوزير طوال الرحلة، كان في السيارات المعنية بالموكب مجموعة من مقاتلي جيش التحرير الشعبي الصحراوي وتقريبا تعرفت إليهم جميعا من الوهلة الأولى، إنها نفس الوجوه الطيبة، وجوه المجاهدين الذين تعودت على مرافقتهم منذ بدأ تكليفي وتشريفي بتغطية جولات التفتيش الى النواحي العسكرية.
لاحظت وجهين جديدين، رجل طاعن في السن على وجهه ترتسم علامات الزمن ومن تلك اللوحة على ذلك الوجه البشوش ترى تاريخ الثورة كله وكأنه يتحدث، كان ذلك الرجل هو هو بلحمه وعظمه وجسده النحيل الغزواني، نعم إنه هو ذات الرجل الذي أطلق أول رصاصة معلنا إندلاع الكفاح المسلح ذات يوم من سنة 1973، أما الوجه الثاني فكان رجل طويل القامة، قوي البنية، رجل ضاحك ومبتسم على طول، بعد ذلك سأعرف أن هذا الرجل المحبوب لم يكن سوى المجاهد أسلامة السبيدي الذي سيغادر دنيانا الفانية بعد عام وبضعة أشهر من تلك الرحلة.
وبعد مسيرة النهار بطوله تقريبا توقف الموكب للمبيت، طلبت من محمد أوليدة ان نبتعد قليلا عن المجموعة إحتراما لهم ولسنهم ومقامهم كآباء لي ولعزيزي نجيب وكان لنا ما أردنا، في تلك الليلة ومن مكاننا على مقربة منهم كنا نستمع الى أصواتهم وهم يضحكون ويتحدثون عن المعارك والروح الرفاقية، يترحمون على الشهداء وفي بعض الأحيان وحين يعم الصمت المكان كنا نلاحظ أن أحدهم كان يذرف الدموع عند ذكر رفيق له أستشهد.
في اليوم الثاني قال لنا محمد أن الوزير والأباء الذين معه مصرين على أن نلتحق بهم وأن نكون من ضمن المجموعة ولم يكن علينا سوى الرضوخ للطلب وإلتحقنا بهم بالفعل.
كانت مجموعة رائعة جدا، وكان أسلامة السبيدي يطلق النكتة تلو الأخرى أحيانا وأحيانا أخرى كان يحكي عن تاريخ المجاهدين.
إلتحق أسلامة بصفوف المناضلين مع بداية السبعينات وآمن بعد ذلك بمباديء الجبهة، إختار الطريق الأمثل في نضاله ولم يتردد لحظة بالإنتماء الى ميدان الشرف والعزة والشهادة والتضحية فكان مقاتلا في صفوف جيش التحرير، كلف بمهام عديدة في موريتانيا ومالي والجزائر نفذها كلها بشجاعة قل نظيرها.
تحكى عن الرجل مواقف أقرب الى الخيال خلال تكليفه بتأدية مهام صعبة وشاقة وشبه مستحيلة في بدايات الثورة، كان محبوبا جدا وسط رفاقه وحتى أيامه الأخيرة كان يبدو قويا متماسكا ولم يضعف ولم يستسلم.
في رحلته معنا تلك كنت وعزيزي نجيب نشعر بأن الرجل يعاني خطبا ما ولكنه لا يريد ان يظهر سيطرة المرض عليه فكنا نقول له : إسترح، لابد ان تعالج او تجري فحوصات، كان يضحك ويقول : .. لا لا .. هذا ماهو شي ألا ظهري أعيات تحكمو حكة إطيرها .. " ..
وقت تناول الطعام كان يقول لرفاقه أنا شاب وسأنضم الى الشباب وكنت وصديقي نجيب نضيف بعض الملح للطعام وأحيانا كنا نضيف معلبات وكان الراحل لا يخشى شيئا، كان يقول .. " .. عدلوا الا ألي تبغوا أنا لاهي نوكل معاكم .. ".
آمن الرجل بمقولة أن خادم الرجال سيدهم وكان يسابقنا ويسابق رفاقه الى القيام بالأعمال التطوعية من إعداد الطعام الى إصلاح العجلات الى إشعال النار وإقامة أتاي، كأنه كان يشعر بأن تلك الرحلة ستكون الأخيرة الى أرضه، الأرض التي تمنى كل يوم وهو المقاتل الذي لا يهاب الموت أن يسقيها بدمائه لذلك كنت ألاحظه ينظر بتمعن وحزن وتأمل كلما توقفنا في واد او قرب گلابة من گلابتها الجميلة.
ترجل أسلامة قبل عام من إستئناف الكفاح المسلح كما يترجل الفرسان وغادر دنيانا ولابد أن الحزن لازال يخيم في أماكن عديدة على غيابه حتى اليوم ولابد أن الدموع تسيل من عيون الرفاق كلما ذكر اسمه ولابد أن القلوب القوية كقلبه الشجاع يملأها الإيمان والرضا بالقضاء والقدر في كل وقت وكل حين.
رحل الرجل تاركا ولا شك فراغا كبيرا وتاريخا عظيما وروحا ستظل حية تلهم كل النفوس التي عرفته وخيالا ملهما يسكن كل العيون التي رأته.
وختاما يقال .. " .. يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم، أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة .. " ..
رحل أسلامة الشجاع ومات مرة واحدة فقط بعد حياة طويلة كانت سمتها التواضع ونكران الذات والبساطة، رحل كما يرحل الأبطال تاركا وراءه سمعة طيبة وما الإنسان في النهاية إلا سمعة، لا مناعة للرجل غير سمعته وتاريخه وقبل ذلك كله قربه من الله وصدق نواياه وطيبة قلبه ورجاحة عقله الخالي من الانانية والخبث والمكر.
فرحم الله الشهداء كل الشهداء وجزاهم عنا خير الجزاء ..
عبداتي الرشيد