منذ عقود، لم تكن فرنسا مجرد “حليف” للمغرب، بل كانت حاميه الفعلي، إذ لطالما نظرت باريس إلى المغرب كمحمية تخدم مصالحها الاستراتيجية في شمال إفريقيا، وليس كدولة ذات سيادة مستقلة قائمة على شراكة متكافئة. المغرب لم يكن يومًا دولة ذات قرار سيادي مستقل عن فرنسا، بل كان دائمًا أداة في يدها، بدءًا من وضع النظام الملكي على رأس السلطة لخدمة المصالح الفرنسية، وصولًا إلى دعمه المستمر في سياساته التوسعية، وعلى رأسها احتلال الصحراء الغربية. من هذا المنطلق، ليس غريبًا أن تصر فرنسا، رغم كل المعطيات الدولية، على ترسيخ الاحتلال المغربي للصحراء الغربية، فهي تدافع عمليًا عن استمرارية محميتها، وليس عن مبدأ سياسي مشروع.
فرنسا في إفريقيا: تاريخ من الاحتلال والاستغلال
عند الحديث عن السياسة الفرنسية في إفريقيا، لا يمكن فصل موقفها من قضية الصحراء الغربية عن سجلها الاستعماري العريق في القارة. فرنسا ليست مجرد دولة لها مصالح في إفريقيا، بل كانت على مدى عقود القوة الاستعمارية الأكثر حضورًا، إذ استعمرت 22 دولة إفريقية، وهي: الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، السنغال، غينيا، بوركينا فاسو، توغو، بنين، كوت ديفوار، جمهورية إفريقيا الوسطى، الغابون، الكونغو برازافيل، جيبوتي، مدغشقر، جزر القمر، رواندا، الكاميرون، وجزر سيشل.
لكن خروج فرنسا من هذه الدول لم يكن يعني الاستقلال الفعلي لها، فقد استمرت في التحكم بأنظمتها السياسية والاقتصادية عبر شبكة معقدة من النفوذ السياسي، الشركات متعددة الجنسيات، والوجود العسكري. لم تخرج فرنسا من إفريقيا إلا لتعود إليها عبر سياسات النهب المنظم للموارد الطبيعية، دعم الانقلابات، خلق الأزمات، وتأجيج النزاعات الأهلية. وبدلًا من أن تكون إفريقيا قارة مستقلة، أصبحت رهينة “فرنسا الإفريقية” (Françafrique)، وهي المنظومة التي سمحت لباريس بالحفاظ على نفوذها لعقود طويلة، حتى وإن كان ذلك على حساب استقرار القارة.
السخط الإفريقي ضد فرنسا: بداية النهاية لنفوذها
لكن كما لكل شيء نهاية، يبدو أن نفوذ فرنسا في إفريقيا بدأ ينهار بسرعة غير مسبوقة. فقد أصبحت الدول الإفريقية أكثر وعيًا بالممارسات الاستعمارية الجديدة، مما دفع العديد منها إلى اتخاذ قرارات جريئة ضد الوجود الفرنسي.
• مالي، النيجر، وبوركينا فاسو قامت بطرد القوات الفرنسية من أراضيها، ووجهت اتهامات مباشرة لباريس بممارسة سياسات استعمارية مغلفة بشعارات “محاربة الإرهاب”.
• الجزائر قطعت علاقاتها مع فرنسا وسحبت سفيرها، في تصعيد دبلوماسي غير مسبوق.
• جمهورية إفريقيا الوسطى شهدت احتجاجات شعبية أدت إلى حرق السفارة الفرنسية، كتعبير عن الغضب الشعبي ضد التدخلات الفرنسية.
• العديد من القادة الأفارقة أعلنوا بشكل صريح رفضهم للهيمنة الفرنسية، مؤكدين أن القارة بحاجة إلى الاستقلال الحقيقي وليس التبعية الاقتصادية والسياسية لباريس.
فرنسا تفقد مكانتها الدولية: أزمة داخلية وخارجية
لا تقتصر أزمة فرنسا على إفريقيا فقط، بل تتجلى في تراجع مكانتها على الساحة الدولية.
• في الاتحاد الأوروبي، بات واضحًا أن فرنسا لم تعد اللاعب الرئيسي في القضايا الكبرى، حيث تراجع تأثيرها لصالح ألمانيا في القضايا الاقتصادية، ولصالح الولايات المتحدة في الملفات الجيوسياسية، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية.
• على المستوى الداخلي، يعاني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أزمة قيادة حادة، حيث أصبح يفتقر للدعم الشعبي وحتى السياسي داخل بلاده، مع تزايد المعارضة لسياسته الخارجية والداخلية.
• في أوكرانيا، لم تعد فرنسا سوى متفرج على الطاولة التي يديرها الأمريكيون والروس، حيث لم يُسمح لماكرون بأن يكون لاعبًا رئيسيًا في المفاوضات الدولية.
المغرب: الورقة الأخيرة في يد فرنسا
في ظل هذا التراجع المتسارع، تجد فرنسا نفسها أمام خيار وحيد للحفاظ على ما تبقى من نفوذها في إفريقيا: المغرب.
باريس تراهن على دعم الاحتلال المغربي للصحراء الغربية كوسيلة للحفاظ على وجودها في شمال إفريقيا، بعد أن خسرت أجزاءً كبيرة من نفوذها في غرب ووسط القارة. هذا ما يفسر زيادة الدعم الفرنسي للمغرب في قضية الصحراء الغربية، رغم أن هذا الموقف يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة، المحكمة الأوروبية، والقانون الدولي، التي أكدت جميعها أن الصحراء الغربية ليست جزءًا من المغرب.
لكن، وعلى عكس ما تروج له الدعاية الفرنسية والمغربية، هذا الاعتراف لا قيمة له سياسيًا أو قانونيًا. فهو ليس موقفًا قائمًا على حقائق تاريخية أو قانونية، بل هو رهان يائس من دولة تفقد نفوذها تدريجيًا، وتحاول بأي ثمن الحفاظ على موطئ قدم في شمال إفريقيا.
القارة الإفريقية ترفض الاستعمار الجديد
بينما تحاول فرنسا الحفاظ على نفوذها، تؤكد إفريقيا أن المستقبل ليس للاستعمار الجديد، بل لسيادة الشعوب. الاتحاد الإفريقي، في قمته الأخيرة، استقبل الجمهورية الصحراوية كعضو فاعل، مما يعكس الاعتراف الإفريقي المتزايد بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. لم يعد بإمكان فرنسا فرض سياساتها على القارة كما في الماضي، ولم يعد بإمكانها أن تملي على الشعوب من يحق له الاستقلال ومن لا يحق له ذلك.
فرنسا والمغرب: تحالف السقوط
الرهان الفرنسي على المغرب هو رهان خاسر، لأن كلا البلدين يعانيان من أزمة داخلية غير مسبوقة.
• فرنسا غارقة في الأزمات السياسية والاقتصادية، تفقد نفوذها الدولي، وتواجه معارضة متزايدة في إفريقيا.
• المغرب يحاول التغطية على أزماته الداخلية من خلال الترويج لانتصارات وهمية في قضية الصحراء الغربية، في حين أن موقفه القانوني يزداد ضعفًا.
إنه تحالف بين قوة استعمارية تتراجع، ونظام ملكي يترنح، وكلاهما يعرف أن المستقبل ليس في صفهما.
لا مستقبل للاستعمار في عالم اليوم
إن محاولات فرنسا المستميتة لدعم الاحتلال المغربي للصحراء الغربية ليست سوى محاولة يائسة لدولة تفقد مكانتها، ونظام مغربي يبحث عن شرعية خارجية تغطي أزماته الداخلية.
لكن الحقيقة واضحة: المستقبل للشعوب، للسيادة الحقيقية، للاستقلال الفعلي، وليس للأنظمة الاستعمارية أو التوسعية.
فليهنأ النظام المغربي بدعم دولة فقدت نفوذها، وليعلم أن رهانه على قوة استعمارية تتلاشى لن يغير من حقيقة أن الصحراء الغربية ليست مغربية، وأن استقلالها مسألة وقت لا أكثر.
الطالب علي سالم ✍🏽