إن السياسة الخارجية للدول هي امتداد طبيعي لسياساتها الداخلية وتعبير عن قوة أو ضعف الدولة في التحكم في خيوط لعبة المصالح الصغيرة منها والكبيرة. بالنسبة لحركات التحرير والشعوب المكافحة هي انعكاس لنبل ومصداقية القضية التي تناضل من أجلها مُرفقة بصلابة الحجج وقوة الإقناع لمن يتحمل إيصال هذه القضية الى العالم وحشد لها المكاسب ومعرفة كيفية الحفاظ عليها.
هذه بعض البديهيات التي لن تكون لها جدوى إذا لم تكن الأداة الحاملة للرسالة الموجهة الى العالم أو بمعنى أوضح الأداة الدبلوماسية، غير مُلمة بمعرفة دقيقة للخريطة السياسية الدولية التي تتحرك فيها مع عدم ملئ أي فراغ وسد الثغرات التي من شأنها أن تؤثر مستقبلا على المكاسب المحصل عليها والغير محصنة أصلا. ربما يكون هذا واحد من العوامل والأسباب الكثيرة التي لا جدوى من ذكرها في الوقت الراهن، التي جعلت المرء يشاهد تقلص وانكماش مكاسب البوليساريو السياسية على المستوى الخارجي. بنظرة فاحصة من الضروري الاعتراف بأن الدبلوماسية الصحراوية: الهيكلة والأداة، لا تعطي ما هو فعلا مطلوب منها، رغم أن قراءة بسيطة في الوضع الدولي والأوروبي، خاصة عقب توضيح الواضح من طرف المحكمة العليا الأوروبية بشأن القضية الصحراوية كقضية سيادة تعني الشعب الصحراوي وممثله الشرعي جبهة البوليساريو تبين أن الباب أصبح مفتوحا للتحرك بأريحية وبالسرع المطلوبة بوعي ودراسة وخبرة دبلوماسية.
فالطبيعة لا تمسح بالفراغ فإن تُرك هذا الأخير يملأه غيرك، هذا هو واقع الحال بالنسبة للجبهة الدبلوماسية.
بالأمس تسحب دولة "البيرو" اعترافها بالجمهورية الصحراوية وبُرر ذك بعذر أقبح من ذنب واليوم تجمد " باناما " اعترافها بالجمهورية وأيضا دولة " الأكوادور"، لا شك سيجد البعض لذلك تبريرا مع العلم أن ساحة امريكا اللاتينية بعد الساحة الأفريقية هي العمق الثاني للقضية الصحراوي وخاصة لمكان الجمهورية الصحراوية كدول وحكومة. فلا غرابة إذا سمعنا غدا أو بعده تراجع دول أخرى في هذه القارة إذ القسم الوحيد في هرم الخارجية الذي ليس له مسؤول يتابع أمره هو قسم دول أمريكا اللاتينية، في وقت قارة آسيا التي لا تعترف فيه دولة واحدة تحظى بمن يتابع أمرها، اليس هناك خلل ياترى؟
على المستوى الساحة الأوروبية، تم في السنوات الأخيرة افراغ عدد من المناطق من أي نشاط سياسي واعلامي، بل وصل الى غلق مكاتب بصورة تعكس جهلا أو سوء تقدير للساحة التي فيها هذه المكاتب والدور الذي يمكن أن تلعب إذا اختيرت لها الأداة المناسبة ووجدت الدعم الكافي للقيام بمهامها. نذكر على سبيل المثال مكتب سلوفينيا، الذي في الماضي تمكن من خلق نواة من البرلمانيين الداعمين للقضية الصحراوية وربط علاقات جيدة مع أهم وسائل الإعلام في هذا البلد. للتذكير فدولة ا "سلوفينيا" كانت دائما واقفة الى جانب حق الشعوب في تقرير المصير وهي الوحيدة من بين الدول الأوروبية الشرقية التي تعترف رسميا بالدولة الفلسطينية. تكمن أهمية هذه الدولة وغيرها من الدول أوروبا الشرقية من أنها تشكل كتلة كبيرة في البرلمان الأوروبي لها وزنها، وبالتالي غلق باب المنبر الوحيد للخارجية الصحراوية في أوروبا الشرقية يترك نصف ساحة اوروبا فارغة بمعنى نصف البرلمان والمفوضية الأوروبية في يد المتآمرين على القضية الصحراوية. غلق مكتب هولندا بحجة أنه يمكن تسييره من بروكسيل وبعد أكثر من عام من اتخاذ القرار بالغلق، طُوي الموضوع ولا حية في بروكسيل تنادي بسم مكتب هولندا. للتذكير فإن مكتب البوليساريو في هولندا، من أقدم مكاتب البوليساريو في العالم وكانت له نشاطات ممتازة وصل اشعاعها في زمن معين الى دول الشمال الأوروبي هذه الدول هي أيضا تعرف فراغا إعلاميا وسياسيا بعدما كادت أن تعترف منها دولة "السويد" بالجمهورية الصحراوية وهي اليوم أصبحت ساحة تمرح وتسرح فيها جماعة البوريطية.
القارة الأسيوية فمنذ مدة طوت الخارجية الصحراوية ملفها عمليا وإن كان شكليا لها قسم بالبناية بالشهيد الحافظ. أما افريقيا المتبقية كعمق حقيقي لكفاح الشعب الصحراوي إذا لم يُتدارك معها بالاهتمام القوي وباليقظة والاستنفار الضروريين، فربما سنكرر من جانبنا قولة وزير الخارجية المغربي السابق محمد بوستة عندما أُعلن من فوق رأسه وهو جالس في القمة الأفريقية انضمام الجمهورية الصحراوية، نكرر تلك المقولة المشهور " لقد فوجئنا، لقد فوجئنا".
لا شك أن الأمور ليست بهذا التشاؤم الذي ربما يكون مفرطا لأن هناك نيات صادقة ومجهودات فردية تستحق التقدير والإعجاب لكن تبقى ذات مردود محدود وناقصة إذا كان الجسم مريض.
الدبلوماسية الصحراوية عليها القيام بوقفة مع الذات وتغيير إستراتيجية وطرق عملها بالكامل والانفتاح على الكفاءات والقدرات الصحراوية المنتشرة عبر العالم ومعرفة كيف الاستفادة منها خاصة أنها كفاءات شابة ذا تكوين عال ومستعدة للعمل إذا وجدت الإطار الحاضن والموجه والقادر على توفير الحد الأدنى من أرضية العمل المرضي داخل المؤسسة الدبلوماسية، فهذا عصر الذكاء الاصطناعي وليس عصر الآلة الراقنة والقلم والمِحْبرة. إن جيل اليوم أدرى بعصره من جيل الأمس. وإن كنا ليس في مكان إعطاء الدروس لأحد، فإن واقع الحال لا يسمح أن تبقى الخارجية الصحراوية مُتعبة تتحرك ببطء وفي حالة دفاع سلبي وانسحاب من المواقع التي حُصل عليها بدماء الشهداء الأبرار.
تحرك بسيط يوم السبت الماضي بمناسبة ذكرى اتفاقية مدريد المشؤمة من طرف شباب عرف بوعيه العالي وحسه الوطني وذكائه المتميز، العضو الذي سيؤلم الحكومة الإسبانية إذا ما استهدف. فبادر بشجاعة الشباب الثوري بوقفة مدروسة أمام مقر الحزب الإشتراكي العمالي الحاكم، تنديدا بموقفه الدنيء من القضية الصحراوية، أربك من خلالها، أولا قيادة الحزب حيث سمحت للمظاهرة قبل شهر بأن تتم أمام مقره، لتتراجع بعد ذلك وتطلب تغيير موقع الوقفة بآخر. ثانيا وهو الأهم أن مبادرة هؤلاء الشباب الوطنيين أخرجت المترددين من قواعد حزب سانشيز من المنطقة الرمادية فأعلنت العديد من القيادات الإقليمية إضافة الى منظمة شبيبة الحزب على المستوى الوطني أعلنت صراحة معارضتها لموقف حكومة مدريد والتزامها بالعمل على محو هذه الخيانة الجديدة، مع العلم أن الحزب الاشتراكي الإسباني قادم على عقد مؤتمره الوطني في الأيام القريبة المقبلة.
مبادرة هؤلاء الشباب التي ستُتبع لا شك بأخريات، حركت المياه الراكدة في اسبانيا. مبادرة واحدة اختير لها المكان والزمان عن وعي و بُعد سياسي كما عكستها تعاليق الصحافة الإسبانية، تُعطي الدرس المفيد لأولي الألباب ... و للخارجية الصحراوية و ما أدراك ما الخارجية.... !!
بقلم: محمد فاضل محمد سالم الهيط