في الذكرى السبعين للثورة التحريرية، يُذكَر بيان أول نوفمبر 1954 كوثيقة تاريخية حددت مسار الشعب الجزائري نحو الاستقلال. فقد استطاع هذا البيان –الذي أعلن بداية العمل المسلح– أن يجسد آلام وآمال الجزائريين، ليكون صوتًا موحدًا للشعب ومؤسِّسًا للجمهورية الجزائرية.
تُظهر القراءة الموضوعية لهذا النص المرجعي خصائصه الكثيرة ومبادئه الخالدة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، مما يفسر إجماع كافة التيارات السياسية الجزائرية عليه على مدار العقود الماضية. يُعدّ هذا البيان مرجعًا أساسيًّا لدستور 2020 الذي رسم معالم الجزائر الجديدة، والذي أرسى دعائمه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. من أبرز هذه الدعائم تعزيز قيم اللحمة الوطنية الجزائرية ووحدة الصف وتعزيز الحوار دون إقصاء، مع تجسيد الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية.
فتح بيان أول نوفمبر الأبواب أمام جميع القوى الوطنية الجزائرية للانضمام إلى جبهة التحرير الوطني، ما حقق التفاف الشعب حول قضية الاستقلال. جاء البيان مخاطبًا الجزائريين بشكل مباشر بعبارة “أيها الشعب الجزائري، أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية”، مما جعل المصلحة الوطنية الجزائرية فوق كل الاعتبارات الأخرى. كما أتاح الفرصة لجميع المواطنين من جميع الطبقات الاجتماعية والأحزاب والحركات للانخراط في الكفاح التحرري.
من الخصائص البارزة لبيان أول نوفمبر أنه أسس لمفهوم القيادة الجماعية، حيث اجتمع القادة الستة (محمد بوضياف، العربي بن مهيدي، مصطفى بن بولعيد، كريم بلقاسم، ديدوش مراد، رابح بيطاط) يوم 23 أكتوبر 1954 بالرايس حميدو بالعاصمة، للمصادقة على نص البيان الذي يؤكد المؤرخون أنه وُضع بشكل جماعي.
تميز البيان بلغة بسيطة ومباشرة، مما جعله سهل الفهم وغير قابل للتأويل. شدد البيان على ضرورة التطهير السياسي وإعادة الحركة الوطنية الجزائرية إلى نهجها الحقيقي، والقضاء على جميع مخلفات الفساد، وتنظيم جميع الطاقات السليمة للشعب الجزائري ضد الاستعمار.
وبعد مرور 70 عامًا، لا تزال الرسائل النبيلة التي تضمنتها هذه الوثيقة الخالدة مرجعية للدولة الجزائرية، حيث أسست لمشروع مجتمع يؤمن بمبدأ التعايش بسلام ويكرّس احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
تجاوز بيان أول نوفمبر البعد المكاني الضيق، ليكون مصدر إلهام لأهم النضالات الإفريقية التي طالبت بحقوق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها. وتستمر الجزائر المستقلة في الدفاع عن هذا المبدأ في كافة المحافل الدولية، مشددة على ضرورة حماية كرامة الشعوب العربية والإفريقية المضطهدة، وعلى رأسها الشعبان الفلسطيني والصحراوي.
بهذا، يظل بيان أول نوفمبر 1954 مثالًا حيًّا على الإرادة الجماعية والشجاعة التاريخية التي قادت الجزائر نحو حريتها واستقلالها.