اضافت وسائل التواصل الاجتماعي بُعدا لحياة الناس وأثرت فيها. ذلك البعد يثير يوما بعد يوم، حضورا طاغيا ومؤثرا. لا يدع مجالا للشك في خطورته، إذا قابل فراغا مجتمعيا وتنظيميا و تراجعا في المسايرة والاستغلال الإيجابي . وفي الحالة الخاصة بنا، وتأسيسا لثقافة مجتمعية متأصلة، تغدو الاطروحات الفكرية محل جدال عاصف وصاخب اذا ما التصقت بنقاش الشأن العام، أَوالخوض في تصوّيب سلوكاته. لكنّ سرعان ما يكون مصيرها الوأد، بمحاكمة أصحابها ونواياهم. فتنزاح الفكرة لصالح تحوّل صاحبها إلى مصدر النقاش.
لا يخدم هذا السلوك الجامح أي فكرة. فالإدانة المسبقة تصبح الحاجز الأكبر أمام الفكرة و إمكانية نقاشها.
وإذا كانت البنية الهيكلية للتنظيم حافظت على اساليبها الخاصة، والتي يمكن اعتبارها لازالت تسبح في التقليدية دون تطوير، في واقع سياسي لا تقليدي . وهو ما أدى إلى توقف دوران التقييم والمشاركة الجماعية. فقد توّج الإنسحاب من خلق الفضاءات التنظيمية في السنوات الأخيرة، إلى تعطيل منظومة الرقابة الشعبية، واختصارها في محطة المؤتمر الشعبي العام. أدى كل ذلك إلى تعويم النقد و تسليعه في احايين كثيرة . وترك المجتمع أسيرا للإشاعة، و ضحية حروب الوكالة و الحروب النفسية التي يقودها العدو وجبهته المعادية. في غياب فادح لما يمكن أن نسميه بالعقل التنظيمي. وهي حالة انجبت مجتمعين وإرادتين؛ كل يرى نفسه اغلبية صادحة أمام اقلية جامحة.
وفي الحالة الوطنية اليوم. تشترك الفئتان في كون تقييم الواقع ، هو مصدر الخلاف والتنازع، وتطمح غالبية تلك الفئات إلى الدعوة لتطويره وتجويده دون المساهمة في هذا المسار. فقد اختطفت الهجرة اغلب القوى العاملة والحية . تلك القوى تريده ايجابيا ولكن دون ان تكون شريكة في تحسّينه. كما هي الاقلية المدافعة عن الواقع.
********
لماذا يتشكل هذا النزوع نحو تقسيم ما لا يمكن تجزئته، أو حتى التخمين في الدفع به نحو الفداحة التقسيمية أو ثنائية موال-معارض؟
وإذا كان المرتكز الديمغرافي ينحو صوب النتيجة السلبية في معركة مصيرية و وجودية مع العدو. فليست هناك من خسارة جسيمة أعظم من تفتيت البنية البشرية ومرتكز الفعل، والدفع بها إلى منطقة الشك و قلاقل التناظر المندفع غير المتحكم فيه.
معركة الديمغرافيا، التي شكلت مكسب البدايات وميدان الصراع المحتدم مع العدو، لم نوفق في السنوات الأخيرة في تثبيت دعائمها، بما يُمكن من كسب رهاناتها. بل تحول المجتمع، قاطرة الفعل، إلى ساحة اصطراع واحتراب.
تتمثل الخطورة الكبرى في تأبيد التقسيم والاستقطاب بناء على المصلحة الآنية الظرفية. ومع وضعية الضعف المزمن يتحول التنازع إلى قنبلة انشطارية تهدد الكينونة. وتزيد من الجراح النازفة. إذ ان جيل التأسيس مطالب اليوم، بتوريث مكتسبات البدايات ومنجزاتها وعظيم صنيعها، و أكبرها وحدة الصف والتمثيل و التماسك المجتمعي، وليس ضمان تحقيق المنشود.
********
لا يمكن مواجهة صعوبات الحاضر دون فهم الماضي وانعطافاته الكبرى. كما لا يمكن استكمال مشوار الغدّ، دون النظر في ما يمكن اعتباره تاريخا أسس لشرعية المسار.
فالانعطافات الكبرى، التي يمكن ان نسقط عليها مدلول التغيير،وكان لها الأثر في تاريخ المشروع والحركة الوطنية. كانت في محطات يختلف الجميع حولها، كما هو التاريخ نفسه .
يمثل إعلان عين بنتيلي أول تحوّل، يمكن أن نعتبره تغييرا في ميزان القوى و الشرعية. إذ سلم الشيوخ بإرادة نبيلة و واعية، السُلطة للجبهة الشعبية. كان لذلك التحول الأثر الكبير والرافعة الأساسية في الإنطلاق نحو مشروعية التنظيم وبُناه الأساسية.
كما جاء تخلي اعضاء اللجنة التنفيذية عن السلطة وامتيازها لصالح المشاركة الجماعية بعد أحداث 88 ليعطي نفسا جديدا في سياقه الداخلي والإقليمي والدولي وللخروج من مأزق داخلي كبير .
*******
يحتاج الواقع اليوم إلى وقفة مع الذات، لكن بوعي مسؤول، وإدراك بحجم المخاطر، وإلى نزاهة أخلاقية، وترفع عن الصغائر ومنطق الاقصاء، من لدن من يمتلكون الأمر، الجيل المؤسس بالدرجة الأولى، و إلى الجمهور المفتوح بجغرافيته المتعددة، وإلى اكثر المخلصين و الصادقين والقابضين على الجمر. فتقرير المصير الفردي دون الجماعي، كذبة مجربة، و مقبرة للمشاريع الوطنية كما هي السلطوية الثورية. ذلك الاختيار الفردي خارج هياكل وأطر التنظيم، يقود إلى حالة انتحار سياسي في أقصى حالته، كما هو اختطاف المؤسسات واحتكار السلطة والهيئات بمبرر الشرعية الديمقراطية و الاستحواذ عليها. وبين الخسارة الفردية و الارتهان التنظيمي، بوّن شاسع، يلقي بظلاله على الجميع، بغض النظر، عن أين علي وأين معاوية.؟ في معركة لا رابح منها سوى العدو .
محمد الفاروق