لم يكن أحد يتصور، إلى وقت قريب، أن دولة من الدول التي كانت تسبح في المدار الفرنسي، أو كانت تابعة للهيمنة الاقتصادية الفرنسية، خاصة الفقيرة والمنعزلة منها، تستطيع أن ترفع صوتها، في يوم من الأيام، وتقول لماما فرنسا: أخرجي من بلدنا ومن خبزنا ومن تاريخنا ومن ذكريات الذاكرة. لا أحد كان يستطع أن يقول لفرنسا أخرجي أو ينهرها، حتى تفاجأ العالم أن النيجر، المعزولة جغرافيا والفقيرة، رفعت صوتها وقالت لفرنسا أخرجي، وحاصرت سفارتها وطردت سفيرها، وأصبحت لا ترفع السماعة لها هي التي كانت تصنف أنها من الدول المدجنة من طرف فرسا. خروج فرنسا من النيجر جعل صرخات وزغاريد التشجيع تنطلق في سماء كل إفريقيا إعجابا بتلك الخطوة الجريئة. وما كاد الأفارقة المشمئزين من ممارسات الظلم الفرنسي يكملون تصفيقهم وزغاريدهم إعجابا بجرأة النيجر، وتحديها لفرنسا حتى فاجأتهم بخطوة أخرى أكبر وأخطر. أعلنت إلغاء كل الاتفاقيات الموقعة سابقا مع الولايات المتحدة الأمريكية. الذين كانوا يصفقون للنيجر لجرأتها ضد فرنسا، بدل أن يوقفوا تصفيقهم، واصلوه بقوة أكبر وبحماس لا مثيل له، لكن هذه المرة تشجيعا لها لإلغاء الاتفاقيات مع امريكا. إذا كان طرد فرنسا من النيجر كان تحصيل حاصل للغباء والعجرفة الفرنسية، فإن فسخ الاتفاقيات بما فيها العسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي يخشاها الجميع، يمكن أن يطرح الكثير من الأسئلة: ما هو نوع التحالفات التي تفكر فيها النيجر مستقبلا؟ هل ستتحالف مع روسيا والصين وايران؟ الجواب إلى حد الآن غامض، لكن مَهما يكن مما حدث فإن فسخ الاتفاقيات مع الولايات المتحدة سيرفع الغطاء عن فشل الكثير من المشاريع الشيطانية الأخرى التي كانت تُطبخ في الخفاء تحت مظلة امريكية. أولا، سيفشل المخطط المغربي الاماراتي الإسرائيلي الذي كان سيتم تنفيذه بغطاء أمريكي، والذي هدفه خلق طوق من النار والحصار حول الجزائر، انتقاما من موقفها من قضية فلسطين ومن منعها لإسرائيل من دخول الاتحاد الإفريقي، بتحويل حدودها إلى خط مشتعل، وثانيا ستفشل محاولات الدول المذكورة التي عملت المستحيل، بالتعاون مع أمريكا، لإقناع النيجر بالتخلي عن أنبوب الغاز القادم من نيجيريا باتجاه الجزائر وأوروبا(الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد الغاز أن يصل إلى أوروبا عبر الانابيب حتى تظل أوروبا زبونا دائما لأمريكا وتدفع ثمن البترول وثمن النقل بالبواخر). البديل الذي حاولوا إقناع النيجر به هو مبادرة الاطلسي وتمويل انبوب الغاز الخيالي الذي يربط نيجيريا بالمغرب. لكن فسخ النيجر للاتفاقيات مع الولايات المتحدة الأمريكية هو مؤشر قوي أن مبادرة الأطلسي، التي تشجعها الولايات المتحدة الأمريكية، قد فشلت نهائيا، بسبب عدم جدوايتها وبسبب رفض موريتانيا لها، وبسبب تعارضها مع القانون الدولي لأن المخزن يحاول اقحام الصحراء الغربية فيها لتشريع احتلاله لها. الآن، بعد هذه الجرأة والشجاعة النادرة، ستقف النيجر أمام مرآتها طويلا لتتأمل صورتها في الحاضر والمستقبل، وتتخذ القرار المناسب فيما يخص تحالفاتها الإستراتيجية المستقبلية ومصالحها، وتعرف ماذا تريد بالضبط. من جهة، هي تعرف إن أي تحالف مع المغرب والإمارات وإسرائيل هو تحالف ظرفي تمليه بعض المواقف وسينتهي بنهايتها. من جهة أخرى، النيجر تريد انبوب بترول يمر من أرضيها، تريد أن تخرج من عزلتها الجغرافية والاقتصادية، تريد منطقة اقتصادية حرة على حدودها، وتريد طريقا عابرا لافريقيا تمر عبره التجارة جنوبا وشمالا. إذا تمعنا في مطالب النيجر نجد أن الجزائر، جارتها الشمالية، مستعدة أن توفر لها كل ما تريد(الغاز من نيجيريا، الطريق الإفريقي، منطقة التجارة الحرة) بشرط واحد هو الشفافية وعدم العمل وراء الكواليس.
السيد حمدي يحظيه
كاتب من الصحراء الغربية
المصدر: جريدة الايام