إن ما تتعرض إليه غزة من إبادة جماعية أيقظ العالم على بشاعة الكيان الصهيوني، وأكد بالدليل الملموس مدى بطش وعنجهية ما يُسمى بدولة إسرائيل ومن يقف خلفها ويدعمها من الامبريالية العالمية وترسانتها الوحشية؛ وبسبب ذلك تحركت الضمائر الحية في بلدان أجنبية فكانت لها ردود أفعال قوية وشجاعة، لم تقف عند حدود إعلان استهجانها للأفعال الهمجية الصهيونية وما تقترفه من جرائم، بل تعدتها إلى قطع العلاقات مع هذا الكيان.
ولا تفاجئنا مواقف هذه البلدان التي استجابت إلى الضمير الحي الهاتف والهادر بقوة المبادئ الإنسانية، لكن فاجأتنا مواقف الأنظمة العربية التي تتوارى خلف الشعارات الباهتة وتكتفي بإعلان الرفض والتنديد وبدبلوماسية باردة لا تتعدى حدود الألفاظ والعبارات المخدرة، مستمرئة هذا القتل الجماعي غير المسبوق في أي مكان من العالم وفي أي حروب، غاضة الطرف عما تتعرض إليه غزة من مجازر دموية من جراء إلقاء آلاف الأطنان من القنابل من شتى الأصناف وحتى الممنوعة دوليا مع حرمانها من أبسط وسائل إدامة حياة البشر.
إن دولا في بقاع العالم البعيدة لم تستمرئ حصول هذه الكوارث ولم تقو على تجاهلها وكانت بوليفيا في مقدمتها، فأعلنت مقاطعتها لإسرائيل سياسيا واقتصاديا على لسان نائب وزير خارجيتها فريدي ماماني ماتشا الذي سمى بصريح العبارة ما يجري في قطاع غزة من إبادة جماعية بأنها (جرائم حرب ضد الإنسانية).
وكان لهذا الموقف البوليفي الشجاع أصداء سريعة وكبيرة جعلت دولا أخرى تبادر إلى قطع علاقاتها أو اتخذت إجراءات لا تقل حزما من أجل منع الإبادة الممنهجة التي تنفذها إسرائيل ضد سكان غزة. فدولة تشيلي استدعت سفيرها في تل أبيب، وسحب رئيس كولومبيا سفير بلاده أيضا ووجهت ابنة جيفارا أليدا تشي رسالة إلى الفلسطينيين تؤازرهم وتؤكد أنهم يطبقون مقولة والدها الوطن أو الموت. وخرج عشرات الداغستانيين غاضبين إلى مطار محج قلعة احتجاجا على هبوط طائرة تقل صهاينة ينتمون إلى كيان ينتهك كل يوم القانون الدولي.
المقاطعة
إن إعلان المقاطعة هو تسجيل لموقف تاريخي يناصر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي الآن نفسه يحرر مذكرة ضغط دولية، لها دورها السياسي المهم في حض العالم على إدانة أفعال الصهاينة الوحشية في غزة. وفي ذلك دليل قوي أيضا على نقاء الضمير الانساني الذي لا شك يزعج، بل يعرقل مخططات الصهاينة وداعميهم والمتخاذلين أمامهم.
(بوليفيا عربية) يحق لنا أن نحيي بوليفيا بهذه التحية، مضيفين إليها (فلتسقط التطبيعية) تماهيا مع شعارنا الدائم (فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية) الذي ما تلاشت أصداؤه يوما من شوارع مدننا ولا ساحاتها وحتى أروقة قصور حكامنا الأسطورية، بل وغرف نومهم الأبنوسية وأبراجهم العاجية، لكن الجماهير التي هدرت حناجرها بهذا الشعار كانت تحلم أن يدخل صدى هتافها إلى حجيرات دماء حكامها لا حجراتهم الأسطورية كي يتحرك فيهم (الدم العربي) فيهددوا ولو لفظيا بقطع العلاقات مع الكيان الوحشي المتعطش لسفك الدماء العربية أو بسحب سفرائهم والتلويح ولو من بعيد بإيقاف السير في طريق التطبيع الذي هو في الحقيقة تركيع.
وعلى الرغم من أن هناك بلدانا (عربية) ما زالت ترى أن مسك العصا من الوسط هو الحل من دون أن تقوم بفعل حقيقي يوقف حمام الدم في غزة، فإن موقف بوليفيا هذا ليس الأول، فلقد سبقته بإجراءات تدلل على تفهمها لحقوق شعب فلسطين المغتصبة. ففي عام 2015 قررت بوليفيا السماح للفلسطينيين دخول بلادها من دون فيزا ومنعت الإسرائيليين من ذلك، بل عدتهم في الخانة الثالثة وعليهم الخضوع لإجراءات مشددة قبل الدخول إلى أراضيها، في حين نجد دولا عربية تتخذ إجراءات معقدة ازاء دخول الفلسطينيين إليها، بل وتفتعل الذرائع للسماح للإسرائيليين بدخول أراضيها مع أن قوانينها النافذة تتعارض مع هذا الإجراء.
وليست بوليفيا وحدها في سجل مقاطعة الكيان الصهيوني، بل هناك مقاطعات أخرى سياسية واقتصادية وأكاديمية ورياضية وجميعها تعبر عن مواقف مشرفة في مساندة الشعب الفلسطيني، ففي عام واحد هو 2010 كانت هناك ألوان من المقاطعات منها الاقتصادية كمقاطعة نقابة عمال الموانئ النرويجية للكيان الصهيوني، ومنها أكاديمية كمقاطعة إسبانيا التي منعت مشاركة جامعة اريئيل في مسابقات جامعات الهندسة المعمارية. ومنها مقاطعات ثقافية كتلك التي قام بها فنانون وكتّاب رفضوا المشاركة في مهرجانات وفعاليات الكيان الصهيوني مثل الموسيقي روجر واترز والروائي إدواردو غاليانو والمخرج لوتش والممثلة الأمريكية ميغ رايان التي انسحبت من مهرجان للأفلام في القدس عام 2010 وقاطع رياضيون مباريات وفعاليات أقيمت داخل الكيان. ولقد كان لهذه المقاطعات وقع شديد على الصهاينة الأمر الذي دفعهم إلى إصدار قانون باسم قانون المقاطعة عام 2011.
أسبوع الأبارتيد
ولعل أهم المقاطعات الاقتصادية هي تلك التي قامت بها حملة BDS وهي حملة دولية اقتصادية لسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الشركات التي تعمل في إسرائيل. وبدأت الحملة في 9 تموز (يوليو) 2005 وغايتها أن ينصاع الكيان للقانون الدولي ويحترم مبادئ حقوق الإنسان وينهي احتلاله الأراضي العربية ويعترف بحقوق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم المنصوص عليها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
وخلال السنوات العشر المنصرمة استطاعت هذه الحملة أن تنشئ لها فروعا في مختلف مدن العالم في كندا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا والمكسيك والهند وإيطاليا والأردن، واستطاعت أن تبطل كثيرا من العقود مع الجيش الإسرائيلي وتفكك عمل الشركات في المستوطنات، مستثمرة مختلف الوسائل من قبيل تنظيم الاحتجاجات الشعبية وكتابة المقالات التحريضية وعقد الندوات والمحاضرات واستخدام منصات التواصل الاجتماعي لجذب انتباه الشركات إلى نشاطاتها والضغط عليها وحملها على مقاطعة الكيان الصهيوني.
ولقد ابتكرت الحملة أسبوعا سمي بأسبوع الأبارتيد وهو سلسلة مظاهرات ومحاضرات وتجمعات ضد الاحتلال الصهيوني في غزة والضفة الغربية. ومن شدة تأثير هذه الحملة أن قام وزير الاستخبارات الصهيوني بملاحقة قادة هذه الحملة واستهدف بشكل مباشر نشطاءها. فسجل المرصد الأوروآسيوي لحقوق الإنسان صورا فيها تهديد لحق الحياة وشرعية الاحتجاج السلمي ومن ثم طالب الصهاينة بعزل هذا الوزير والتنصل من تصريحاته.
واليوم تعمل حملة BDS بشكل فاعل ضد الإبادة الجماعية في غزة وبوتيرة تضامن كبيرة ولاسيما حين اقترح الصهيوني وزير ما يسمى بالتراث إلقاء قنبلة نووية على هذه المدينة المحاصرة، هب أعضاء هذه الحملة يعملون من أجل إنهاء التطبيع والتواطؤ فكان أن أغلق عمال بريطانيون مداخل شركة Elbit للصناعات العسكرية وكانوا يهتفون (كم طفلا قتلتم اليوم) وأغلق عمال كنديون مداخل شركة INKAS التي تزود العدو بالمعدات العسكرية وطالب عمال مصنع ليوناردو الأسكتلندي وعمال سكك الحديد شيبا في اليابان بوقف تسليح إسرائيل، ودعا عمال مناجم كولومبيا بوقف تصدير الفحم والمعادن إلى إسرائيل.
ويبدو أن لا فروع لهذه الحملة في أغلب بلداننا العربية مع أن الحملة عالمية وانتشرت بشكل سريع وشعارها (نحن نحييّ كل الذين يعترفون بأنه طالما لا يمكن تحصيل العدالة للفلسطينيين يجب أن ننظم أنفسنا ونتحرك لصالح العدالة والسلم الحقيقيين).
إنها أخلاقيات الضمائر الحية في العالم التي تناضل في سبيل وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة، فماذا فعلنا نحن العرب في سبيل إيقاف الدم النازف في غزة؟ هل سحبنا اتفاقيات التطبيع ومنعنا الاستثمار مع الصهاينة؟ هل وقفنا في مجلس الأمن وأعلنا أننا بشر ولا يجوز التعامل معنا بعنصرية؟ ولماذا لا تؤازر مؤسساتنا المدنية وأحزابنا (وما أكثرها) حملة BDS أو تفعل مثلما فعلت أحزاب أجنبية طالبت بتجريم الكيان الصهيوني ومقاطعته مثل حزب نقابات عمال جنوب أفريقيا2011 والمؤتمر الوطني الأفريقي 2012 وحزب الخضر البريطاني الذي أيد العقوبات على إسرائيل عام2015.
إن دعم هذه الحملة عربيا له مردودات إيجابية على طريق إنهاء التطبيع الذي هو المعوق الأول والأخير في طريق المقاومة والنضال من أجل استرداد الأرض العربية في فلسطين. ويكفي أن نتمثل بقول كافكا في إحدى رسائله مخاطبا صديقته فيليس “كيف وصلتِ إلى اتفاق مع الصهيونية تلك هي قضيتكِ.. وسوف تتأكدين فيما بعد أنني لست صهيونيا”.
٭ كاتبة من العراق
اقتباس: إعلان المقاطعة هو تسجيل لموقف تاريخي يناصر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره