القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد أمبارك هناني ...رحيل ذاكرة


بسم الله الرحمن الرحيم
-----------------------------
 محمد أمبارك هناني ...رحيل ذاكرة. 
-----------------------------
 الشيخ الجليل الفاضل المرحوم محمد أمبارك ولد هناني ولد الحسين ، فريد عصر زمانه ونابغة لن تتكرر في علم الأنساب والمعرفة الدقيقة بطبائع وأوصول سكان المنطقة وما يحيط بها من طرائف وحكايات وحقائق نادرة وقصص وروايات من أزمنة "لحلل" و "الفركان" و"أكوابير" و "أمجبور" و "أيت أربعين" وجهاد الأباء والأجداد ضد النصارى ومواسم سوق  "أكليميم" و"طمعة إكاون" و "كيطنة أطار" وأعوام "أستكبيلة وأتكافية الحية" وجيش التحرير و" أدكديك المكازة" و"السنيات" وتفاصيل دقيقة عن حياة البدو وأماكن المصيف والشتاء وأوكارهم ووصولهم وفروعهم وأي نوع من الماشية يملكون وأسماء خدمهم وألوان حيواناتهم وألقابها ، كل ذلك يسرده لك بأسلوب فيه كثير من الدعابة والمرح والدقة المتناهية وكأنه حديث عهد بها أو أنها -الأحداث- وقعت البارحة ، وهو شيخ قد وهن عظمه وعمه الشيب وأعتلت صحته ودنا أجله وأقتربت ساعة رحيله.
الشيخ محمد أمبارك هناني الحسين شخصية محبوبة من طرف الجميع لا يمل السامع من سماع حديثه ،يشهد له القاصي والداني أنه موسوعة في معرفة الأوصول والأنساب وخبير بفك ما فيها من الإشكال والغموض رغم أنه نشأ عصامي ،ومع ذلك ونظراً لما حباه الله من الذكاء اللمَّاح وسرعة البديهة والأدب الرفيع فإنه لايحكي في المجالس العامة كل ما يعرفه ويتجنب الكلام  عن كل ما من شأنه يثير العواطف أو ينقص من قيمة الناس أو يلمز في نسبهم ووصولهم رغم ما يتعرض له من الحرج وفضول البعض في التنقيب و"تنتاك لغوابر" قصد زرع البلبلة وإثارة نعرة الجاهلية ، فظل حريصاً رحمه الله على تقوية اللحمة وتمتين النسيج الإجتماعي وإشاعة مايعرفة من السمعة الطيبة والأوصاف النبيلة ومكارم الأخلاق والصيت الحسن ويتجنب بث كل ما فيه منقصة أو عيبٌ أو أي إيحاء يرمز للدونية أو التنمر ،مجسداً قوله عز وجل (( يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ )) {١٣ -الحجرات}.
ولد المرحوم محمد أمبارك ولد هناني ولد الحسين عام "لبيرات" الموافق لسنة 1926م بمنطقة "كلتة زمور" ، توفي والده رحمه الله عندما بلغ سن الثانية عشرة من عمره ، وأتمت والدته السيدة الفاضلة المرحومة لخوديم منت محمد المكنى (الكيحل)  ولد بلقاسم ولد سيد أعلي المكنى (عمي)، مراحل تربيته حتى بلغ أشده وتصلب عوده وهيأته رحمها الله دخول معترك الحياة ، فعاش فترة شبابه يتنقل بين أشقائه الكبار بواد الساقية الحمراء وأخواله النجباء الرَّحالة بين أودية زمور شمالاً وضواحي "كليميم" جنوب المغرب ، وظهرت علامات نبوغه منذ مرحلة الفتوة أيام مصاحبته ومرافقته للقوافل التجارية "أكوابير" أو "الرفكة" حيث جاب مختلف المواسم "أمكاكير"  بالضواحي ولعل أشهرها سوق "محيريش" ببلدة "كليميم" ،وكما هو معلوم كان هذا السوق قبلة سكان المنطقة القاطنين شمال الصحراء الغربية في العام مرتين تقريباً حيث ينتظم الرجال في مجموعات مكونين قوافل ، فعند ذهابهم يسوقون قطعان الماشية (إبل،ضأن،ماعز) أو ما يسمى "أجْلب" و يحملون على جمالهم الصوف وجلود الأغنام المعالجة تقليدياً (الإيهاب) ، وعند وصولهم السوق أغلب المعاملة التجارية تتم بواسطة المبادلة فيُحمِّلون جمالهم مقابل بضاعتهم ، ما يحتاجونه من الميرة (سكر ،شاي ، تمر ،زرع ،قمح ، زيت ...) ومن اللباس (أخناط ، بيصات النيلة وألوان مختلفة ، أحذية ، نعل ...) ثم يعود " أكبار" أدراجه بنفس نظامهم السابق أي ضمن قافلة وقد جدوا في السير لحاجة العيال للرمق واللباس.
كما أعانه وأفاده رحمه الله إختلاطه وإحتكاكه بمختلف أصناف وأجناس الناس ، وقدرته العجيبة على نسج علاقات الصداقة والمودة والألفة والإحترام مع جميع شرائح المجتمع الصحراوي وحواضنه الإجتماعية، حيث لا توجد عائلة صحراوية في وطننا أو جنوب المغرب أو المناطق الحدودية جنوباً وشرقاً إلا وتربط بعض أفرادها علاقة قرابة أو رضاعة أو معرفة أو صداقة أو عشرة عمر مع المرحوم محمد أمبارك ولد هناني ؛ الشيء الذي كان له الأثر البالغ الأهمية في إتساع ملكة الحفظ عنده وتخزين المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الأرض والإنسان والعادات والطبائع وعلوم الأحياء (النباتات - الحيوانات...) .
 عاصر محمد أمبارك هناني علماء أجلاء من أمثال الفقيهين الجليلين : الشيخ محمد فاضل سيد لعبيد والشيخ سيد البشير  المحجوب فأخذ عنهم الأحكام الشرعية من فقه العبادات والمعاملات ، وزادته مصاحبة ومجالسة الشيخين الفاضلين: عالي ولد محمد سالم ولد أبريك وشقيقه إبراهيم ولد محمد سالم ولد أبريك،  زيادة في التحصيل فتعلَّم منهما ما أحتاجه  لتوسيع مداركه وصقل ملكته في علم الأنساب،    
 وكان يدل السائلين عليهما وينصح بالأخذ منهما والنهل من معينهما.
للشيخ محمد أمبارك ولد هناني ولد الحسين حكايات عجيبة وحوادث غريبة ومواقف طريفة لا تعد ولا تحصى كدُعابته لبعض رجال عائلة "أمزاويك" ومصارحتهم بنسبهم الحقيقي الذي ينتهي لآل البيت ، رغم  إنتمائهم لعائلة أخرى نبيلة وفاضلة ، وقصته العجيبة مع "قالب السكر" الذي إستدانه من عند أحد الأعيان الأجلاء الذي كانت تربطه به علاقة وطيدة تصل إلى حد الأخوة والمحبة في الله  وهو المرحوم المحجوب ولد أمبارك العربي ، ومرت عقود من الزمن على الحادثة فرقت بينهم سنين عجاف فيها الغزو والنزوح وويلات اللجوء والحرب الضروس  وبعد وقف إطلاق النار ذهب الأب محمد أمبارك هناني لزيارة شقيقته  بالعيون المحتلة في إطار البرنامج الذي أسمته "مينورسو" بناء تدابير الثقة بين الطرفين البوليساريو والمغرب ، وبعد وصوله وأخذه قسطاً من الراحة طلب من أقاربه بإصرار الذهاب به إلى صديقه المرحوم المحجوب ولد أمبارك  العربي ويعرفهم أهل مدينة العيون حالياً ب: " أهل أمبارك العربي"  إن كان حيّاً أو أحد أبنائه ، فأخبروه أنه توفي رحمه الله منذ سنوات فأستعبر وأسترجع ،ثم خرجوا به إلى أبنائه وهم "كسَّابة" للمواشيء ويقطنون في "كرارة تادخست" ضواحي العيون وعند قدومه وبعد أن عرفوه كان لقاءً عاطفياً فاضت فيه المشاعر الجيَّاشة فأختلطت الحفاوة بالحنين والترحاب مع الدموع حتى أخضَلَّت لِحَاهُم  وبدأ يحدثهم عن علاقته برفيق عمره المحجوب ولد أمبارك العربي  وما عاشه معه من حلو الزمن ومُرِّه حتى وصل بيت القصيد وسر لهفته للقاء ألا وهو حكاية إستدانته "قالب السكر" وأنهَّ مصمم على تسديد ذلك الدين ،فتأثر القوم من جديد وبكوا معلنين له أن ذلك شيء يسير وقد طوته السنين وتطاول عليه الزمن ، لكن محمد أمبارك هناني كان بداخله وازع ديني كبير وخوفاً ظل يلازمه طوال تلك السنين فكانت إجابته تعكس ما في قلبه من ورع وتقوى حيث قال : لن أقدم على ربي أحمل شيئاً ليس من حقي بل سأسدده بإذن الله.
إنخرط محمد أمبارك هناني كغيره من الصحراويين منذ البداية في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب مناضلاً غيوراً حيث عمل مع كوكبة من الآباء الأجلاء في جهاز ما يعرف ب " مليشيا" والمناط بها حفظ أمن المخيم والسهر على حماية المؤسسات الوطنية لكنه فضلَّ بعد سنوات اللحاق بصفوف مقاتلي جيش التحرير الشعبي وظل هناك إلى أن أقعده المرض والعجز ،حتى أتاه الأجل المحتوم فى 2021/08/10 م بعد تاريخ حافل بالبذل والعطاء ومسيرة ظافرة صان فيها العهد وقدم الغالي والنفيس في سبيل الله ثم من أجل كرامة وعزة شعبه.
 رحل محمد أمبارك ولد هناني ولد الحسين وشيعه جمع غفير في موكب جنائزي رهيب ليوارى الثرى بمقبرة مخيم السمارة ، ثم يرجع الناس وألسنتهم تلهج بالدعاء والمغفرة له ،لكنهم ربما لم يخطر على خلد أحدهم في تلك الليلة من ليالي صيف اللجوء الحار أنهم دفنوا مع الرجل ذاكرة  كبيرة فيها ثروة من المعلومات راكمها رحمه الله من حلِّه وترحاله وتِجوالِه في مختلف الأماكن وما أكتسبه من الخبرات والتجارب وحكايات من التاريخ والتراث فضلاً عن موسوعة علم الأنساب ، واليوم وقد تفطنا بعد فوات الأوان نعض أصابع الندم على تفريطنا وقلة نضجنا وعدم تحملنا للمسؤولية ونحن جيل نقضي معظم أوقاتنا نفرقع أصابعنا دون عمل وكان الأجدر بنا أن نستغل أوقات فراغنا في التدوين وجمع المعلومات قبل رحيل الشهود من أمثال محمد أمبارك ولد هناني وآخرون قبله وبعده ، فهل من مستفيدٍ  أو متعظ...؟!!!.
للمرحوم محمد أمبارك هناني أخوان من أبيه وخمسة أخوات واحدة منهن شقيقته ، وله أسرة كريمة تتكون من إبن وستة بنات حفظهم الله أما أمهم الفاضلة فقد رحلت بضع سنين قبل وفاته ، رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح الجنان.
في نهاية هذه الترجمة المختصرة بودي أن أتقدم بالشكر الجزيل والتقدير الكبير لكل من ساهم معي وأعانني في إعداد هذه النبذة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
---------------------------
مولودمحمد الحسين

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...