واصل احمد بنجارة حديثه قائلا: حاولنا جمع القليل من البنزين (إصانص) من السيارات المرافقة، لنزود به إحدى السيارات، من اجل جلب ما أمكن من المحروقات، التي كنا قد اخفيناها منذ زمن من اجل هذه اللحظة، والموجود عند (ام ارواقة) التي تبعد عنا بحوالي من 120 كلم شرقا.
طلب احمد القايد صالح، وهو قائد المجموعة، من المجموعة التي كلفت باخفاء المحروقات، ان تذهب لاحضار ما أمكن من تلك البراميل، إن كانت لازالت هناك، لانكم انتم من يعرف مكانها.
خرجت المجموعة، وطلبوا مني الانضمام إليهم، واعتذرت في البداية، لأن حالتي كان يرثى لها، من التعب وآلام الظهر، وبعض الجروح الخفيفة، واكدت لهم انني لن أنفعهم في الحفر، لهذه الاسباب، وعليهم ان يختاروا من يمكنه ان يساعدهم في الحفر، لأن البراميل مر عليها عدة شهور، وستكون مطمورة تحت الرمال.
رفضوا واكدوا انهم لن يبرحوا المكان، إلا وانا أمامهم.
نزولا عند رغبتهم، انضممت إليهم وانطلقت بنا السيارة ...
قلت لهم لا يمكنني أن اسافر إلى أم ارواقة، وأعود دون ان اقدم ابسط المساعدة، أكد لي احمد القايد صالح ان ارافقهم، ووعدني بانني لن المس شيئا.
بعد انطلاق سيارتنا بقليل، ومغادرتنا للمجموعة، ظهرت لنا سيارتين أمامنا، في تلك الاثناء بدأنا نتبادل الأراء، اذا كانت سيارات للعدو، وهو ما أكده احمد القايد صالح، وقال بأنها قد تكون دورية للكشف، وسنحاول تعطيلهم واخذ ما لديهم من محروقات، نتزود بها حتى نٌخرج بها الشاحنات لنصل إلى (ازميلة ولد الديخن) وكنا خمسة فقط، حيث تركنا السيارة مخفية، وبقي عندها محمد ولد البلال، وتسللنا نحن اربعة، وتفرقنا اثنان اثنان، حتى اقتربت السيارات، فإذا بها من سيارات مجموعاتنا.
سألونا عن الولي، أين تركناه فطرحنا عليهم نفس السؤال، وقالوا لنا انهم افترقوا معه عند بنشاب، حيث فصلت القوة الموريتاتية بيننا وبينه ورفاقه، وكان ذلك اخر رؤيتهم له، في تلك السيارة المغنومة، التي استغلها هو ومجموعته نحو بئر بنشاب لتفجيره.
أكد احمد بنجارة أن تلك السيارات الخمسة التي تركوها مع الولي، احداها تعطلت لانها نفذت محروقاتها من البنزين (اصانص)، وتحول ركابها إلى هاتين وهما سيارة الاشارة (ترانسمسيون) وسيارة تحمل سلاح دوشكا، واثنتان ذهب بهما الولي إلى بنشاب، وهاتان هما الرابعة والخامسة.
اشارنا إليهم بأن قوتنا قريبة من هنا، ولا تبعد عنا الا بحوالي خمسة كيلومتر، وعليهم الانضمام إلى المجموعة، فمنهم من ذهب إلى المجموعة، مشيا على الاقدام لانها قريبة من المكان.
وبقت السيارتين في المكان نفسه بالقرب من اوشيش بوطلحة، بعد مغادرتنا بقليل، كشفت قوة موريتانية سيارتنا التي كانت مسرعة جدا، وذهبت عكس اتجاهنا مما أدرك السيارتين الاخرييين في نفس المكان، وتبادلا اطلاق النار واستشهد احد الرفاق وهو ابراهيم ولد الوالي ولد احمادي، وأسروا البقية متأثرين بجراحهم، وزحفوا على القوة الأخرى، التي كانت غير بعيدة من المكان، في معركة غير متكافئة استمرت حتى الثامنة مساء، جرح فيها بعض الرفاق واستشهد اثنان اخران، وفي نهاية المطاف استطاع الرفاق أن يخرجوا بشاحنتين وسيارة لاندروفير.
واصل المحفوظ الحكاية من حيث انتهى ولد بنجارة قائلا: انطلقنا من المكان بشاحنتين، وسيارة لاندروفير تحمل سلاح دوشكا، استدرك المحفوظ قائلا: ومن الطرافة ان احد حراس المجموعة واعتقد ان اسمه الجيلالي، التي كانت بالقرب من اوشيش بوطلحة، والتي بدأت القتال مع القوة الموريتانية، كان مختبئا بين بعض الحشائش متقيا بها حرارة الشمس، وبقي هناك حتى الليل، وعند مرورنا غير بعيدين منه لم يستطع إطلاق النار او الانضمام إلى القوة، معتقدات انها قوة موريتانية، وبقي هناك حيث ذهب إلى اوشيش بوطلحة، وظل هناك مختبئا في مبنى قديم تركته فرنسا، ويشرب من البئر، حتى مرت عليه دورية من الناحية العسكرية الرابعة بعد ذلك بأيام.
استمر مسيرنا نحن باتجاه الشمال في تلك البيداء طوال الليل، دون توقف حتى طلعت الشمس، ووضحت الرؤية، فإذا بنا نحن نرى هضبة التيرسال الخضراء.
قبل أن نصل هناك، انتهت محروقات سيارة لاندروفير، التي تحمل سلاح دوشكا، فنزعنا سلاحها، وبدأنا نبحث عن بئر لنشرب منها، وكان معنا احد الرفاق له خبرة بالأرض، وهو باهية ولد ابنين، ارشدنا الى بئر مالحة (امراق) جنوب شرق التيرسال، تسمى (ابير انقيت) وقال لنا (هذا البئر ما ينشرب يغير اهلو مايموتو) استقربنا من ذلك، وطلبنا منه تفسير كلامه، حيث أكد انه على كل منا ان يبلل ملابسه كي يبقى جسمه رطبا، وعندما يحس بالعطش يمكنه ان يرتشف رشفة صغيرة.
عند وصولنا نزل هو الأول للبئر، وبدأ يصب علينا الماء، ولكننا لم نلتزم بما امر به، فشربنا كثيرا وكان البئر في ارض قاحلة لاتوجد بقربه اي أشجار ولا ظلال، وكنا نعود إلى ظل الشاحنات.
كان ولد ابنين - رحمة الله عليه - رجلا عارفا بأمور الصحراء، اقترب منا نحن مجموعة متكئين في ظل إحدى الشاحنات وقت العصر، وطلب منا ان نساعده في رفع برميل إلى حوض الشاحنة، ولكننا كنا لانملك قوة لذلك، فاقترح علينا خدعة رائعة سيتحرك الجميع بموجبها، وهي انه سيربط حبالا في البرميل، ويذهب من اتجاه آخر، ويعود مسرعا، وهو يطلق النار في السماء، سوف ينهض الجميع ويحملون البرميل، دون أن يحسوا بنقلها.
وكانت فعلا هي الفكرة التي نفذها، ونجحت فسحبنا البرميل بمعية الجميع دون أن يعلم الكثيرون بهذه الخطة.
ومن باب المزحة، قال احد الرفاق علينا ان نتركه، لأنه من الأفضل أن يؤسر جندي واحد، بدلا من ان نؤسر جميعا، التحق بنا وركب في احدى الشاحنات، وانطلقنا في بيداء واسعة (اعظم) تحاذي هضبة التيرسال، وتجازناها شمالا، فإذا بنا بقطيع من الإبل بينهم بعير اسود اللون (اخظر)، يبدو انه هو أصغر القطيع سنا، صوب اليه احد الرفاق بندقيته، واصابه في احدى ارجله الامامية، ونزلنا اليه ونحرناه.
كنت من المجموعة التي وصلت اولا، حيث اكلنا الكبد والرئة وبعض اللحوم التي يمكن أكلها نيئة، لأننا كنا نعاني من الجوع والعطش معا.
عندما حاولنا مواصلة السير، تعطلت لنا فرامل احدى الشاحنات، وقضينا يومنا وليلتنا هناك، وانتهى كل ما لدينا من مؤن، وحتى العجلات لا نمتلك مواد ترميمها، مما اضطرنا في اليوم الموالي اتخذنا قرارا مفاده لن تذهب الشاحنة السليمة وتنقل ما يمكن من افراد الفرقة إلى أم غريد، التي لم تعد بعيدة منا، وتعود لنقل البقية، حيث بقينا نحن حوالي خمسة عشر رجلا عند الشاحنة الاخرى.
عند الأصيل من نفس اليوم، وبعد ساعات من ذهاب الشاحنة، وصلتنا مجموعة من المقاتلين كان معظمهم من الكتيبة التي كلفت بضرب نواكشوط، مزودة بالمؤن والعتاد، في طريقها للبحث عن البقية.
تم اصلاح الشاحنة الاخرى، وذهبنا إلى أم غريد، حيث وجدنا المجموعة قد نحرت وتجهز انصاف براميل لطبخ العشاء، وبعد تناول وجبة العشاء.
واصل احمد بنجارة حديثه عن رحلته مع مجموعته لجلب المحروقات من أم ارواقة قائلا: انطلقنا صوب المكان الذي اخفينا فيه براميل المحروقات، وقد لاحظتنا الدورية الموريتانية دون أن نعي ذلك.
واصلنا طريقنا إلى ذلك المكان المغفر في تخوم الصحراء، وصلنا بعد الأصيل وبتنا ليلتنا في الحفر، وذلك لنزع الكثبان التي تراكمت بفعل الرياح على براميل المحروقات المخفية هناك، استمر الوضع حتى الصباح، تمكنا من اخراج اربع براميل.
اخذنا تلك البراميل وزودنا سيارتنا منها، وانطلقنا عائدين إلى حيث تركنا بقية، الرفاق بالقرب من اوشيش بوطلحة، ولكننا في الطريق وعند وصولنا إلى منطقة تسمى (ازميلة ولد الديخن) وجدنا اثار الشاحنات، ومعهم سيارة لاندروفير، ويبدو من اثار العجلات المتعرج انهم يبحثون عن طريق سالك، تبادلنا الاراء والمشورة، واقترحت عليهم يقول احمد بنجارة، وهو يبتسم رايا لو أخذوا به لوقعوا جميعا في الاسر، حيث اقترحت عليهم العودة إلى اوشيش بوطلحة، أين تركنا الرفاق، اتفقنا على رأي ان نخفف الحمل، ونترك ثلاث براميل في ذلك المكان، واذا كان حقا تلك اثار الشاحنات، نعود بالسائقين إلى السيارات التي تركناها بدون محروقات ونعود بها.
تبعنا اثار الشاحنات، حتى وصلنا الى المكان الذي تركوا فيه سيارة لاندروفير التي نزعوا سلاحها دوشكا.
عبئنا خزان السيارة بالبنزين (اصانص) وواصلنا طريقنا شمالا، وفي الطريق التقينا بنفس المجموعة التي التقت بها مجموعة الشاحنات، التي ذكرها لك المحفوظ قبل قليل، ومن ضمنهم حمادي فراجي، وباب لحبيب وآخرون، حيث سالونا عن الولي ومجموعته، واخبرناهم اننا لا نملك اي معلومات عنه، ولا عن جماعته حيث افترقنا معهم بالقرب من بنشاب.
وسالناهم عن الشاحنات التي سبقتنا، أكدوا لنا انها وصلت ام اغريد بسلام، وصلنا نحن بعد المجموعة الأولى بيوم كامل، واتجهنا مباشرة إلى الرابوني.
كانت هذه هي شهادتنا حسب ما عايشناه من احداث منذ انطلاقنا، وحتى عودتنا، من خلال مشاركتنا في عملية انواكشوط الاولى، من المؤكد اننا قد ننسى بعض التفاصيل، لانها احداث مرت عليها عدة عقود، ونحن نستذكرها الآن، على سبيل الذكرى والتدوين كي تبقى للأجيال في قادم الازمان.
تحقيق بلاهي ولد عثمان