--------------------------------
حياةٌ...رهنَ التوقيع..!
--------------------------------
بعد الإجتياح الهمجي لوطننا منتصف سبعينيات القرن الماضي ؛ كان شعبنا الأعزل على موعد مع أكبر عملية نزوح بشري للعنصر الصحراوي عبر التاريخ ؛ وهكذا فر الآلاف بمداشر حوزة وأجديرية والسمارة وبأرياف واد الساقية وأكسات وآفر والخنكة أين كانت شرارة الكفاح المسلح ؛ من بطش وجبروت سيل من الجياع قادم من الشمال ومن أمام جنازير دبابات (SK-105) وغيرها التي حولت القرى بتلك المناطق إلى أثر بعد عين ؛ وبكلتة زمور وأم أدريكة حيث حدثت جرائم القنبلة بالفسفور والنابالم وفي جنوب البلاد بتشلة وبئر أنزران وآوسرد وميجك وآغوينيت وغيرها حيث تعرض السكان هناك إلى بشاعة ووحشية العصابات الإجرامية لجيش نظام ولد داداه ؛ لقد كان نزوحاً فوضوياً ومأساوياً وهو ما يعرف عندنا ب"الإنطلاقة" ، وجُمع الناس في مناطق متاخمة لمدينة تندوف الجزائرية وأنتشرت الأمراض والأوبئة الفتاكة كالحصبة والتفوئيد والكوليرا وإلتهاب السحايا والسعال الديكي والإسهال وغيرها وكان الأطفال وكبار السن هم من دفعوا ثمن ذلك ؛ وشكلت تلك الفترة الحرجة تحدياً كبيراً لمصداقية التنظيم وخاض صراعاً مريراً مع عقلية الجهل والبداوة التي تسود المجتمع ؛ وتبقى تلك المرحلة من تاريخنا مرتبطة في أذهان أمهاتنا اللواتي فقدن فلذات أكبادهن وأقاربهن بجرائم إرتكبها "المندسون" ؛وشهود العيان يروون وقائع حدثت آنذاك فيها كثيراً من الغموض والريبة خاصة مدى صلاحية تلك الأدوية وسلوكات بعض الأطباء والممرضين.
وفي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حدثت طفرة نوعية في الميدان الصحي وأعطت سياسة (الوقاية خير من العلاج) التي أنتهجها تنظيم الجبهة الشعبية أكلها ، وبكفاءات وطنية وإمكانيات بسيطة عاش الصحراويون عصراً صحياً ذهبياً لامثيل له وأختفت تلك الآثار الرهيبة التي خلفتها عملية النزوح العملاقة ، فبنيت مراكز إستشفائية جهوية ومستشفيات وطنية تقدم خدمات تليق بالكرامة الإنسانية وأقيمت أماكن للوقاية والنقاهة خاصة بالمسنين والحوامل والمرضعات وأنتشرت ثقافة النظافة اليومية للخيم والمؤسسات والبيئة وأيام مخصصة للتهوية ونشر الأغطية والبطانيات تحت أشعة الشمس ، وتحول المخيم إلى أنظف بقعة صحية في العالم بشهادة بعض البعثات الطبية ، كل هذا حدث في ظرف وجيز وتحت رقابة صارمة وعين مخلصة ساهرة وأداة صادقة متفانية وسياسة رشيدة واعية.
واليوم لم يبق من الزمن الصحي الجميل إلا الأطلال فقد إختفى المستشفى الوطني ب"أدخل" و"لكلينو" بالرابوني ومستشفى السل الرئوي "تيبي" بآوسرد الأولى ، وطحن الدهر بكلكله مستوصفاة دوائر الرابوني التي كانت تعج بالحركة ، وأصبحت رفوف الأدوية بكافة المؤسسات الصحية فارغة بعد أن كانت بالكاد تتسع لها،وأنمحى من الدوائر مراكز تغذية المسنين المعروفة ب"مقر الشيخوخة" ومن وسط الأحياء دور تغذية الأطفال الرضع وغابت الرقابة الصحية على النظافة وتقييم الطهي وتعقيم صهاريج المياه وتهاوى السور الذي كان يضم أغنام الحي وحزمت البعثة الكوبية متاعها قافلة إلى وطنها بعد أن تغير كل شيء حولها.
وجاء العصر الجديد بعد وقف إطللق النار 1991م، وبدأ الإهمال يزحف رويداً رويدأً إلى المراكز الصحية والمستشفيات ، ونامت تلك العين الساهرة التي كانت متيقظة ذات يوم وضمر الصدق والإخلاص في النفوس ؛وتعرضت المؤسسات الصحية كغيرها إلى الخصخصة ومزاجية من يديرها وحدث صدام مع الأطقم الطبية سببه صراع على المكاسب المادية وعبثية التسيير، أدى إلى هجرة أغلبها إلى إسبانيا وطبع في ذهن المواطن البسيط أن كل مايتعلق بالسياسة الصحية عندنا هو عنوان للفساد والمحسوبية وعدم المصداقية والبيروقراطية "المتوحشة" وأخذ ملف الإجلاء للخارج نصيب الأسد من القدح والذم وتم نعت سيرة وسلوكات بعض منتسبي القطاع بالرذيلة والفحش الأخلاقي ؛ ودفع أفراد المجتمع الثمن غالياً نتيجة لذلك وأيقنوا بعد إحتجاج للتنظيم وإمتعاض وتململ أنه لاحياة لمن تنادي وأنه لامناص من الإعتماد كلية على الله أولاً في العلاج ثم على أنفسهم مكرهين والتي لاتلبي إمكانياتهم الشحيحة الفواتير الباهضة الثمن بدول الجوار.
ويوم بعد يوم يسوء حال صحتنا وغدت المستشفيات خاوية على عروشها وخلت من الأدوية التي يقال أنها نهبت وتم بيعها كما حدث لبعض أجهزة الفحص التي أختفت في ظروف غامضة وتواترت الأخبار عن وجود عصابات إجرامية متعددة الجنسيات تمارس أعلى درجات التحايل لوثائق المرضى وتتاجر بالتأشيرات (الفيزات) ثم تتقاسم الأرباح ،ولم تكن المستوصفات بالدوائر أفضل حالاً إذ إنحصر دورها على إشعار الأمهات بالمنحة التي تقدمها منظمة خارجية أو مواعيد تلقيح الأطفال الذي بقي مستمراً وصامداً رغم العواصف التي دمرت القطاع، وأمتلأت دور العلاج في الخارج بالنزلاء وغالباً مايعتمدون على ذواتهم او بمساعدات المحسنين في دفع المبالغ الطائلة للفحوصات ةالطبية أو إجراء العمليات الجراحية ووسط هذا الجو المرتبك والمشحون ظهرت بعض العيادات الخاصة في البداية بشكل محتشم ثم مالبثت أن تحولت إلى ملاذاً للمواطنين خاصة في الفحص و تشخيص الأمراض، لتتبعها لاحقاً صيدليات باماكن مختلفة.
جل ملاك العيادات الخاصة هم ممن إضطرتهم الظروف العامة وإكراهات واقع اللجوء ويملكون كفاءات عالية في ميدان إختصاصهم ، وهم من طينة هذا البلد وجذورهم ضاربة في أعماقه ومن أبنائه البررة الذين قدموا خدمات جليلة لشعبهم في القطاعين العسكري والمدني ؛ وكعينة من هؤلاء نذكر *الدكتور محمد سالم الشيخ (هيددة) خريج اكاديمية الطب بعين النعجة بالجزائر الحاصل على درجة دكتوراه في الطب العام سنة2000م ثم شهادة دراسات عليا إختصاص في التصوير الطبي والأشعة التقليدية Diplome Doctorat en Médecine Générale & Imagerie Médicale et Radiologie Conventionnelle وهو ضابط سامي برتبة عميد ؛ ولعل دواعي الحديث عن هذا الرجل الذي يؤدي دوره المهني بإحترافية وإقتدار ونية صادقة هو ما سمعه جل الصحراويين من كلامه عبر صوتية لمدة نصف ساعة أماط فيها اللثام عن بعض خبايا السياسة المنتهجة بالقطاع الصحي مبرزاً الممارسات اللاأخلاقية والحاطة من كرامة المواطن الصحراوي وقد حمله مسؤولية سكوته وقبوله عدم إستقباله بالمستشفيات نظراً لحيازته على توقيع طبيب خاص وأي طبيب ؟! ذلك الذي كان منتسباً لصفوف جيش التحرير الشعبي الصحراوي وأدى خدمات هناك ومنتدباً بالقطاع المدني وتاريخه شاهداً على سلوكه ومواظبته وعندما حلت الجائحة العالمية كان ناطقاً رسمياً للجنة الوطنية للوقاية من فيروس كورونا كوفيد19 ، وهذا القرار الوزاري لا يخلو من تصفية حسابات معينة أو إجراءات كيدية دأب جل المسيرين القيام بها للتضييق على الموظفين المصنفين عندهم في خانة المغضوب عليهم لخروجهم عن "المألوف"وعدم دخولهم "المنطقة الرمادية" أين يختلط الحابل بالنابل فيخرجون من تحت الأنقاض معلنين للعامة أنهم هم المناضلون الوطنيون المخلصون وغيرهم متحاملون وقبليون وربما عندهم أجندات معادية....! وهكذا تضيع حياة المواطن المريض المغلوب على أمره لأنها مرهونة بتوقيع طبيب للدولة أو مسير لايعرف قراءة وصفة الدواء ، كما حدث مع تلك المرأة التي سمعنا صوتها الذي يمزق شرايين القلب ويدمي الفؤاد وهي تشكو ماوقع لها من إهمال سببه ختم طبيب موسومٌ عند الوزارة أنه يغرد خارج السرب...! وهذه المسكينة ليست وحدها من كانت الضحية هناك الكثيرون ، منهم أنا كاتب هذه السطور حيث تعرض ولدي ذوي الإثني عشر ربيعاً، مارس الفارط لآلام حادة بالمعدة وعندما فحصه الدكتور هيددة وجد الزائدة الدودية (بنديسي) قد تمزقت في أحشائه وأمر على الفور بإجلائه إلى المستشفى المختلط بمدينة تندوف ، وأعطاني ملف بحالة المريض أقدمه للمستشفى الجهوي بولاية آوسرد لجلب سيارة الإسعاف ، لكننا فُجئنا بذلك القرار الذي لايعترف بتوقيع أطباء القطاع الخاص ، مما أثار حفيظتنا وإحتجاجنا الشديد غير أنهم والحق يقال تعاملوا مع الموقف بالمرونة اللازمة وأعطيت الأوامر لسيارة الإسعاف لنقله ، وعند وصولنا إلى مستشفى مدينة تندوف الجزائرية ما إن نظروا في الملف ووقعت أعينهم على توقيع وختم الدكتور محمد سالم الشيخ حتى أدخلوه على جناح السرعة للإستعجالات ثم تم تحويله مباشرة إلى غرفة العمليات وأجريت له جراحة ناجحة وهو الآن صحيحاً معافى والحمد لله.
هذا رأي يؤخذ منه ويرد ، وفيه الخطأ والصواب ، وصاحبه ليس من أولائك الذين يصطادون في الماء العكر أو ينتفخون لأحد أو يعيشون في جلبابه ، ولاتوجد دواعي شخصية لخط هذه الأحرف ، وكلما في الأمر هو أننا لايستطيع أي كان لجمنا عن توضيح ما نعتقد أو يغلب على ظننا أنه حق ونقف مع كل من يدافع عن حقوق العباد وكرامة المواطنين ويتصدى بضراوة لمنظومة الفساد والمفسدين الذين حولوا مؤسساتنا العامة قطعة من أملاكهم الخاصة وأستغفلوا وأستغبوا وضحكوا على منتسيبيها وراء شعارات طنانة وفي دواخلهم لايؤمنون إلا بمصالحهم الخاصة ، ويمارسون على من حولهم سياسة القطيع الذي يجب أن يغدو ويروح في إتجاه واحد ومن كَلَّ منه أو إنفرد لسبب ما، يجب تركه فريسة للذئاب تنهشه ، وبهذه الأساايب ضاع المواطن وأبتعد حلم العودة وأنطفأت جذوة العطاء في النفوس وتم الدوس على الكفاءات وإغتيال أحلام وتطلعات الشباب وخلق بيئة طاردة للقدرات والتضييق عليها ودفعها للهجرة والإغتراب.
وفي الختام أترحم على أرواح شهدائنا الأبرار وجميع أمواتنا الأعزاء خاصة الذين عملوا بجد في قطاع الصحة العمومية وندعوا الله عز وجل أن يثقل ميزان حسناتهم بالأعمال الصالحة وأن تكون خالصة لوجهه وأن يستقيم حال من جاء بعدهم ويصلح أموره وينيبه إلى رشده وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
________________
مولود /محمد/الحسين