بقلب دامع وحزين تلقيت بشكل مفاجئ خبر وفاة المغفور له بإذن الله الأب الطيب البشوش النقي التقي صلوح ولد أميليد. عندما يأخذ الله إليه روح من الأحبة وأنت بقربهم ففي ذلك نوع من العزاء لكن أن يتم ذلك وأنت بعيد عنهم ففيه من المرارة ما لايدركه إلا من عاناه، إنا لله وأنا إليه راجعون.
سمعت بإسم الأب الراحل رحمه الله قبل أكثر من ثلاثين عاما إبان إنضمامي متطوعا لحياة الجندية نهاية الثمانينات، كنت حينها يافعا وبالكاد أخطو أولى الخطوات في تجربة مرارة الحياة، كنت مثل كثيرين من أترابي نستمتع بأحاديث الرفاق الأكبر سنا ونستلهم من سمرهم وتجاربهم ونصائحهم وإرشاداتهم، كان من أفضل الأوقات عندي عندما أُجالس بعضهم مساءا أو ليلا حين يبدأ الحديث يأخذ منحى الشجن وعصر الذكريات وكأنه نوع من التأريخ الشفوي لمراحل عايشوها وساهموا فيه وصنعوها، في تلك الجلسات سمعت بإسم المرحوم بحول الله صلوح ولد أميليد. كثيرا ما جاء ذكره كواحد من خيرة خبراء الأرض "إيمنيرن" في الأحاديث عن المعارك والبطولات التي خاضها جيش التحرير الشعبي الصحراوي ودوره (الأب الراحل) وغيره من نظراءه في إنجاح الخطط العسكرية، وكثيرا ما أقترن ذكره تغشاه الرحمة بكلمة التكريم المعروفة بالحسانية (وخيرت) والتي أشهد أنها لصيقة بإسمه طوال معرفتي به التي تعمقت بعد ذلك.
تقوم الدول والمنظمات دائما بتكريم القادة والمسؤولين على ما صنعه البسطاء والجنود، لكن بالمقابل يقوم الشعب البسيط بتكريم البسطاء والجنود بطريقة أفضل حيث يسكنهم في حنايا الذاكرة الجماعية ويعطيهم مرتبة سامية في القلوب، فإذا صادف وجاء قائد كبير برفقة جندي بسيط يُفرش للقائد أنسب الفراش على الأرض ويُفرش للجندي أنبل فراش في القلوب. تعلق أسماء القادة ورجال السياسة على لوحات وجدران البنايات والمؤسسات وتُنقش أسماء البسطاء الطيبين في الذكريات وصفحات الروح ونعم التكريم.
مرت الأيام وتداولت لتجمعني بالصدفة بواحد من أبناءه في مهمة وبسبب ما ورثه من والده من طيبة ودماثة وعزة نفس وروح حية تعمقت معرفتي به وأصبحنا أصدقاء لنكون بعد ذلك إخوة في الله فبعد إنتهاء المهمة زرت العائلة وقابلت لأول مرة الأب الراحل بشكل مباشر قبل قرابة عشر سنوات، ومثل كل العائلات الصحراوية أصبحت جزءا من العائلة وساهمت خصال وصفات المرحوم في ترسيخ تلك العلاقة ليس معي فقط بل مع العديد من الشباب الذين أقابلهم عند العائلة وأُلاحظ أن الخيمة الكريمة تجسد أخلاق وطيبة المجتمع الصحراوي.
كان رحمه الله يتمتع بصفات نادرة ترقى إلى الملائكية فرغم كثرة الأحاديث والحوارات التي تبادلناها أو التي كنت حاضرا لها دون أن أكون طرفا فيها لم أسمع كلمة ليست على قدر المقام، كان بليغا وهادفا في حديثه وخبيرا في إنتقاء كلماته أو لعلها تأتي بتلقائية، غالبا يكون كلامه عن النصح والإرشاد والتوجيه والحث على مراعاة الصالح العام، ومهما تشعبت الحوارات والموضوعات لا يخرج سياق توجيهاته عن التمسك بالأخلاق والمودة والتماسك والوحدة والبعد عن أسباب التفرقة وترك ما لايليق.
رأيته في العديد من المواقف المتباينة والمختلفة التي تعكس بوضوح نصاعة ونقاوة روحه وعمق الطيبة بدواخله، يحادث الكبار والصغار كل بما يتناسب وعقليته، يلاعب بأريحية أحفاده ويُشعرهم وجميع من حوله بحنان دافق، رأيته يضع الكثير من قطع الحلوى تحت مخدته وكلما دخل صبي أفرحه بشئ منها، وكان رحمه الله عندما يتطمع صغير في الزيادة لا يغضب ولا يمنعه بل يبتسم إبتسامة نادرة فيها الكثير من الحكمة والدفء وخبرة الحياة، رايته يقوم بإصلاح أعطال السيارات (خبير في الميكانيكا بالمناسبة) سواء تخصه أو لغيره بمنتهى البراعة لكن أيضا بمنتهى الطيبة والجدية دون أن يشكو أو يتأفف، ورغم الستر في الحال كان ميالا للبساطة والتواضع ولم أُشاهده يوما يرتدي فاخر الثياب إلا إذا كان متوجها للصلاة، رافقته مرات وهو يتقن فن التعامل مع مختلف العقليات بمزيج من الخبرة والتدين والعطف والإحساس بالمسوؤلية، كان رحمه الله مثل الكثيرين من جيله مستمع مواظب للراديو الوطني ويناقش بأفكار راقية رغم الشجن والمآخذ المواضيع التي تثيرها نشرة الأخبار أو غيرها من البرامج، وكثيرا ما أستمتعت بحديثه عن الأرض ومعرفتها وخبرته بها وتاريخ البطولات العسكرية رغم محاولاته الواضحة في تحجيم مساهماته المشرفة في حرب التحرير والتي يتفطن المستمع أنه كان يقلل فيها من ذكر إسمه أو ينسب لنفسه اي من الأعمال البطولية.
أُجزم أنني يمكن أن أكتب العديد من الصفحات إذا واصلت تعداد خصاله وتجربتي معه خلال تعارفنا، وواثق من أن ذلك حظي بالمصادقة اللازمة من خلال النعي الجمعي الذي رافق رحيله رغم أن كل ذلك لا يكفيه حقه من الرثاء، وأُجزم أيضا أنه شملته المغفرة كتاب آخر يرحل من بين أيدينا دون أن نفيه حقه ودون أن نستفيد منه للأسف.
أشعر بالمرارة التي لا يمكنني وصفها لفقدانه دون أن أكون قريبا منه، وعزائي في إخوتي وأخواتي من العائلة الكريمة، وبرحيله يتضح من جديد مدى التفريط الشنيع من طرفنا تنظيما وأفراد في جمع المعارف والتجارب وتدوينها، أُعزي نفسي وأفراد العائلة الطيبة جميعا والشعب الصحراوي شملا في هذا المُصاب المرير، ولا نملك إلا أن نعمق الدعاء له بالرحمة والمغفرة والقرب من الله والأنبياء والصديقين، وأن نكون خير خلف لأفضل سلف.
حمادي البشير