إن ربَّكم – جلَّ وعلا – يُذكِّرُكم بنعمِه العامة والخاصَّة، لتشكُرُوه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة: 7]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20].
وأخبرَنا – عزَّ وجل – أن النعمَ كلَّها مِنه؛ لنقوم بحقِّه – تبارك وتعالى – في العبادة والشُّكر، ونرغبَ إليه في الزِّيادة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى:﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79].
فالحسنات تُصيبُ الإنسانَ تفضُّلٌ مِن الله ورحمةٌ مِن جميعِ الوُجُوه، والسيئاتُ بسببٍ مِن الإنسان، والله كتبَها وقدَّرَها، ولا يظلِمُ الربُّ – عزَّ وجل – أحدًا مِثقالَ ذرَّةٍ، وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].
والناسُ يعلَمُون كثيرًا مِن النعم، ويجهَلُون أكثرَ النعَم. فكَم مِن نعمةٍ ساقَها الله إليك – أيها الإنسان – ومتَّعَك بها وأنت لا تشعُرُ بها؟! وكَم مِن شرٍّ ومُصيبةٍ دفعَها الله عنك وأنت لا تعلَمُها؟!
قال الله تعالى في حفظِ الإنسان: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
والكثيرُ مِن أعضاء البدَن تقومُ بعملها لنفعِ البدَن وحياتِه، بغير إرادةٍ مِن الإنسان، قال الله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 18].
ومَن لا يقدِرُ أن يُحصِيَ النعَم، فهو يجهلُ أكثرَها، ومَنَّ الله تعالى بالنِّعَم لتُسخَّرَ في طاعةِ الله وعبادتِه، وعِمارةِ الأرض وإصلاحِها، قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾[النحل: 81]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].
فشُكرُ النِّعَم هو باجتِماع أمورٍ: بمحبَّة المُنعِم – جلَّ وعلا – على نعمِه، والخُضُوع لله – سبحانه وتعالى – لما أنعمَ عليك، مع تيقُّن القلبِ أن كل نعمةٍ تفضُّلٌ وإحسانٌ على العبدِ مِن جميعِ الوُجُوه، لا يستحِقُّها العبدُ على الله، والثناءِ على الربِّ باللسانِ بهذه النِّعَم، والقَبُول لها بتلقِّيها بالفاقَةِ والفقرِ إلى الله، وتعظيمِ النِّعمة، واستِعمال النِّعَم فيما يُحبُّ الله – تبارك وتعالى – ويرضَى.
فمَن استخدمَ آلاءَ الله فيما يُحبُّ الله ويرضَى، وجعلَها عونًا على إقامة الدينِ في نفسِه، وأدَّى بها الواجِبات المفروضة عليه فيها بالإحسانِ إلى الخلقِ مِنها، فقد شكرَها. ومَن استخدمَ نعمَ الله فيما يُبغِضُ الله، أو منَعَ الحُقُوقَ الواجِبةَ فيها، فقد كفرَ النِّعَم.
وألا تُبطِرَه النِّعَم، ويُداخِلَه الغُرُور، ويُوسوِسَ له الشيطانُ بأنه أفضلُ مِن غيرِه بهذه النِّعَم، وأنه ما خُصَّ بها إلا لمزِيَّةٍ على مَن سِواه. وليعلَم أن الله يبتَلِي بالخيرِ والشرِّ؛ ليعلمَ الشاكِرين والصابِرِين، والإيمانُ نِصفُه شُكرٌ، ونِصفُه صبرٌ، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31].
وكتبَت عائشةُ – رضي الله عنها – لمُعاوية – رضي الله عنه -: “إن أقلَّ ما يجِبُ للمُنعِم على مَن أنعمَ عليه ألا يجعلَ ما أنعَمَ عليه سبِيلًا إلى معصِيَتِه”.
وفوقَ مرتبة الشُّكر على النِّعَم: الشُّكرُ على المصائِبِ والشُّرور، والحمدُ لله على المكرُوهات التي تُصيبُ المُسلم، والتي لا يقدِرُ على دفعِها.
وأهلُ هذه المنزِلة أولُ مَن يُدعَى لدخول الجنة؛ لأنهم حمَّادُون على كل حالٍ، وقد أمرَنا ربُّنا – عزَّ وجل – بشُكرِه فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]، وقال تعالى:﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].
وقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «أحِبُّوا اللهَ لما يغذُوكم به مِن نعمِه»؛ رواه الترمذي وصحَّحه مِن حديثِ ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -.
وأعظمُ الشُّكر: الإيمانُ بربِّ العالمين؛ فهو شُكرُ نعمة رسالةِ مُحمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، التي أرسلَه بها رحمةً للناس، ويأتي بعدَها شُكرُ كل نعمةٍ بخصُوصِها إلى أصغَر نعمةٍ، وليس في نعمِ الله صغِير.
وأعظمُ كُفرٍ للنِّعَم: الكُفرُ بالقرآن والسنة، ولا ينفعُ شُكرٌ لأي نعمةٍ مع الكُفر بالإسلام، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].
وقد وعدَ الله الشاكِرين بدوامِ النِّعَم وزيادتها وبركاتها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
والشاكِرُون هم الفائِزُون بخَيرَي الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145].
والشاكِرُون هم النَّاجُون مِن عقوباتِ الدنيا وشُرُورها، ومِن كُرُبات الآخرة، قال الله تعالى في قصةِ قوم لُوط: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 34، 35].
والشُّكرُ مقامُ الأنبِياء والمُرسَلين – عليهم الصلاة والسلام – وعبادِ الله المُؤمنين، قال تعالى عن نُوحٍ – عليه الصلاة والسلام -: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[النحل: 120، 121]، وقال تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144].
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يقومُ مِن الليل حتى تتفطَّر قدَمَاه، فقالت: يا رسولَ الله! تقومُ مِن الليل حتى تتفطَّر قدَمَاك، وقد غفرَ الله لك ما تقدَّمَ مِن ذنبِك وما تأخَّرَ؟! قال: «أفلا أكونُ عبدًا شَكُورًا؟!»؛ رواه البخاري ومسلم.
والشاكِرُون هم أهل نعمِ الله الذين يخُصُّهم بما لا يخُصُّ غيرَهم، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].
والشاكِرُون هم خاصَّةُ الله مِن خلقِه، لذلك كانُوا قليلًا، قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13].
أيها الشاكِر! دُم على الشُّكر والاستِقامة؛ فمَن وفَّى مع الله وفَّى الله له، قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40].
ولا يستزِلَّك الشيطانُ – أيها الشاكِر – فتُقصِّرَ في الشُّكر، أو تُغيِّرَه إلى كُفرٍ بالنِّعمة، فتتغيَّرَ عليك الأحوال مِن حسَنِها إلى سُوئِها وشرِّها، قال الله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211].
أي: مَن لم يشكُر النِّعَم عاقبَه الله عُقوبةَ نَكالٍ. فمَن كان على دوامِ شُكرٍ زادَه الله، ومَن تحوَّل مِن المعاصِي إلى ما يُرضِي الله تحوَّلَ الله له مما يكرَهُه ويسُوؤُه إلى ما يُحبُّ، ومَن كان مُوافِقًا لله في القُرُبات ومُباعَدة المعاصِي والمُحرَّمات، تولَّى الله أمورَه، ووفَّقَه بتوفيقِه، وأحسَنَ عاقبتَه في الأمور كلِّها.
عن أنسٍ – رضي الله عنه -، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن ربِّه – عزَّ وجل – قال: «مَن أهانَ لِي ولِيًّا فقد بارَزَني بالمُحارَبَة، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه ما تردَّدتُ في قَبضِ نفسِ عبدِي المُؤمِن، يكرَهُ الموتَ وأكرَهُ مَساءَتَه، ولا بُدَّ له مِنه، وإن مِن عبادِي المُؤمنين مَن يُريدُ بابًا مِن العبادة فأكُفُّه عنه؛ لا دخُلُه عُجبٌ فيُفسِدُه ذلك.
وما تقرَّبَ إلَيَّ عبدِي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ علَيه، ولا يزالُ عبدِي يتنفَّلُ إلَيَّ حتى أُحِبَّه، ومَن أُحبِبتُه كُنتُ له سمعًا وبصرًا، ويدًا ومُؤيِّدًا، دعانِي فأجَبتُه، وسألَنِي فأعطَيتُه، ونصَحَ لِي فنَصَحتُ له.
وإن مِن عبادِي مَن لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الغِنَى، ولو أفقَرتُه لأفسَدَه ذلك، وإن مِن عبادِي مَن لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الفقر، وإن بسَطتُ له أفسَدَه ذلك، وإن مِن عبادِي مَن لا يُصلِحُ إيمانَه إلا السُّقم، ولو أصحَحتُه لأفسَدَه ذلك، وإن مِن عبادِي مَن لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الصحة، ولو أسقَمتُه لأفسَدَه ذلك.
إني أُدبِّرُ عبادِي بعلمِي بما في قُلوبِهم، إني عليمٌ خبيرٌ»؛ رواه الطبراني، ولبعضِ ألفاظِه شواهِدُ في “صحيح البخاري”.
فكُن – يا عبدَ الله – مع الشاكِرِين الذين يصُبُّ الله عليهم الخيرَ صبًّا.
ذكرَ الإمامُ ابن القيِّم – رحمه الله – في “مدارِج السالِكِين” أثرًا إلهيًّا عن الله – عزَّ وجل -: «أهلُ ذِكرِي أهلُ مُجالَسَتي، وأهلُ شُكرِي أهلُ زِيادَتي، وأهلُ طاعتِي أهلُ كرامَتِي، وأهلُ معصِيَتِي لا أُقنِّطُهم مِن رحمَتِي، إن تابُوا فأنا حَبِيبُهم، وإن لم يتُوبُوا فأنا طبِيبُهم، أبتَلِيهم بالمصائِب لأُطهِّرَهم مِن المعايِب».
وقد أمرَك الله تعالى أن تكون مع هؤلاء الفائِزِين، قال تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر: 66].
وقد ذكرَ الله تعالى نِعَمًا بخُصوصِها في كتابِه؛ لنفعِها وبركتِها على الأمةِ إلى يوم القِيامَة في سُورة النَّحل.
ومِن وصايا نبيِّنا – صلى الله عليه وسلم – النافِعة: أن قال: «يا مُعاذ! إنِّي أُحِبُّك، فقُل دُبُر كل صلاةٍ: اللهم أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادَتِك»؛ رواه أبو داود والنسائي.
وهذه الوصِيَّةُ لجميعِ الأمةِ.
والحمدُ والشُّكرُ تدخلُ معانِي بعضِها في بعضٍ، مع اختِصاصِ كلٍّ مِنهما بمعانٍ دقيقةٍ.
ولله تعالى نِعمٌ على المُسلمين خاصَّة وعامَّة تُوجِبُ عليهم الشُّكرَ والاستِقامةَ، كما أن الربَّ – جلَّ وعلا – له نِعمٌ عظيمةٌ على هذه البِلاد مَنَّ بها عليها.
فمِن أجَلِّ النِّعَم والمِنَن: اجتِماعُ الكلِمة، فاجتِماعُ الكلِمة سِلكٌ تنتَظِمُ فيه مصالِحُ الدين والدنيا، وتعزُّ فيه العقيدةُ الصحيحةُ التي كان عليها النبيُّ وأصحابُه – رضي الله عنهم -، وتعمُرُ الديارُ، ويندفِعُ بها شرُّ الأشرار، ويَقوَى بها الدين، ويندَحِرُ الأعداء، وتعلُو الكلِمة، وتعظُمُ الأمة، ويُؤمَرُ بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكَر، ويُؤخَذُ على يدِ الظالِم، وتُحفَظُ الحُرُمات، وتُصانُ الدماء والمُمتلكَات، وتعتزُّ الثُّغُور، وتصلُحُ الأمور.
وبدون اجتِماع الكلِمة يدخُلُ على الأمة مِن فسادِ الدين ومِن فسادِ الدنيا ما لا قِبَلَ للفرد ولا للمُجتمع بإصلاحِه.
فسُبحان الحكيم العليم القائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103].
وأمةُ الإسلام وسَطٌ بين الأُمم، لا غلُوَّ ولا تساهُل ولا تضيِيع للواجِبات، ولا جُرأة على المُحرَّمات، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
وما يقَعُ مِن التقصير مِن المُسلم في حقِّ الله تعالى أو في حُقوق الخلقِ، فليس سببُه شريعة الإسلام الحقِّ، وإنما سببُه مِن قِبَل النفسِ البشريَّة بجهلٍ أو غلَبَة هوى، ومَن تابَ تابَ الله عليه.
قال النبيُّ – عليه الصلاة والسلام -: «كلُّ ابنِ آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائِين التوابُون».
لأن الشريعةَ مِن الله تعالى لا نقصَ فيها بوجهٍ مِن الوجوه.
والشُّكرُ منافِعُه للشاكِرين، والتقصيرُ فيه ضرَرُه على الغافِلين، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: 12].
قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[الزمر: 7].
واعلَمُوا أن العبدَ مهما أطاعَ ربَّه، وتقرَّبَ إليه بأنواع القُرُبات لن يقوم بشُكرِ ربِّه على الكمال والتمام، ولكن حسبُه أن يجتهِد، وأن يقوم بالفرائِض، وينتَهِي عن النواهِي، ويعلم أنه لولا رحمةُ الله به لكانَ مِن الخاسِرين، ويُلازِم الاستِغفارَ مِن التقصير، وأن يُكثِرَ الدعاءَ لربِّه بالمعونة والتوفيق، وأن يُكثِرَ مِن ذِكر الله؛ فالذِّكرُ يسبِقُ به صاحِبُه إلى أجَلِّ المقامات.
عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدعُو: «ربِّ اجعَلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مِطواعًا، لك مُخبِتًا، إليك أوَّاهًا مُنِيبًا، ربِّ تقبَّل توبَتِي، واغسِل حَوبَتِي، وأجِب دعوَتِي، وثبِّت حُجَّتِي، واهدِ قَلبِي، وسدِّد لِسانِي، واسلُل سخِيمةَ صَدرِي»؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: “حديثٌ حسنٌ صحيحٌ”.
وفي الحديث: «مَن قال حين يُصبِحُ: اللهم ما أصبَحَ بي مِن نعمةٍ أو بأحدٍ مِن خلقِك فمِنك وحدَك لا شريكَ لك؛ أدرَكَ ما فاتَه في ليلتِه، ومَن قال: اللهم ما أمسَى بي مِن نعمةٍ أو بأحدٍ مِن خلقِك فمِنك وحدَك لا شريكَ لك؛ أدركَ ما فاتَه في يومِه».
————————-
د. علي الحذيفي