الى وقت ليس ببعيد كان تنسيق وتنظيم التظاهرات والوقفات والاحتجاجات السلمية الرافضة للاحتلال المغربي في الاراضي المحتلة ومناطق جنوب المغرب تكتنفه سرية إقتضتها استراتيجية مرحلية هدفت بالأساس الى اكتساح مساحات رأي إقتلعتها سنوات الرصاص ترهيبا وترغيبا وبالتالي معركة وجود في المقام الأول ، ومع أنني لست هنا بصدد طرق جدوائية عفوية الحراك السملي بالجزء المحتل من الصحراء الغربية من تنظيمه ولا عن تفاعلات الانتفاضة ولا مسارها التاريخي ولا عن مدى نسبة انتشارها شعبيا ولا ما حققته على الأرض مع أنها موضوعات تحتاج طرقا معمقا وملما ، إلا أن العمل الميداني ومنذ العام ألفين وخمسة إتخذ منحنى تصاعديا في علانيته ، حتى غدا نجاح أي فعل مقاوماتي من عدمه مرهون بعلم سلطات الاحتلال نفسها وأجهزة القمع فيها على وجه التحديد ، في انجاز اخر أضفى للجماهير الصحراوية موقعا جديدا الحفاظ على مكانته أهمية قصوى ، عكس ما تردد كثيرا من أن فشل التنظيم مرده اختراق المخابرات المغربية ومجنديها لبرامج ودوائر الصحراويين ، فكانت قدرة الصحراويين بالأرض المحتلة ومناطق جنوب المغرب على إنجاح فصول الانتفاضة مقرونة بتنظيم وقفاتهم ومظاهراتهم وملتقياتهم دون علم سلطات الاحتلال مسبقا توجسا من استباقها خطوات ردعية مانعة ومعيقة لأي حدث نضالي صحراوي ، غير أن المنتفضين في كل مرة كانوا يضعون المخزن أمام امر واقع ، حالما تمكنوا من الوصول الى نقاط التظاهر وفق سياسة تنسيقية محكمة بالسرية والدقة ، والنتيجة قمع للمتظاهرين ومطاردة الاخرين واعتقال البعض ومداهمة المنازل وما الى ذلك مما لايخطر على بال بشر ، ومن ثم تعمد الة القمع المغربية الى حالة استنفار سرعان ما تخفت لأن الحذر لايدوم طويلا ، ومع بهوته نسبيا يعود الصحراويون الغاضبون بأساليبهم السلمية ذاتها الى الشارع مع علمهم المسبق أن نهاية مشهد التظاهر سينتهي بالسيناريوهات المألوفة نفسها ، لكنهم في كل مرة يصبحون اكثر دراية بعدوهم وتوجهاته وطرقه وبمكره حتى .
غير أن المعادلة وبمرور الوقت إنقلبت رأسا على عقب ، فاليوم بات الصحراويون مقتنعين بأن المقاومة السلمية ومع خروجها من ضائقة الخفاء الى المجاهرة بمناضليها وبأساليبها وببرامجها وبأهدافها ، بأنه كلما علمت سلطات الاحتلال بحراكهم ، كلما أمعنت في قمعهم ، وتكون قد وضعت نفسها مجددا امام سيل من الانتقادات اللاذعة لخروقات حقوق الإنسان ، أو أن تصبح أمام خيار أصعب عبر ترك المتفضين يطلقون العنان لأفراحهم باعلام بلدهم وبشعارات أبدعوا في صياغتها وتلقينها لشعبهم قاطبة ، وأساسها ذلك الذي جعلتها الانتفاضة سقفا كبيرا لها " إنتفاضة الاستقلال " ، أي أن نهاية لفصولها ترتبط ارتباط شرطيا ووثيقا بتحقيقه .
ما يلفت في القضية برمتها ، وخلال متابعتنا الى التطورات الأخيرة فإن أبناء شعبنا إختاروا منتصف كل شهر الى للتظاهر ، كتاريخ معلوم مثلما هي معلومة أماكن الحدث أيضا التي بات الاحتلال يشدد من قبضته الامنية عليها ، فأجيالنا الجديدة من الصحراويين الذين لم يروا أراضيهم المحتلة باتوا على دراية تامة بجغرافيا أحياء وأزقة وشوارع المقاومة ، على الوتيرة ذاتها التي بتنا نعرف بها التراب المغربي بعدد سجونه ومعتقلاته الرهيبة التي تكتم احلى أيام عمر الشباب الصحراويين المطالبين بالحرية والاستقلال في الميدان وينتهي بهم المطاف في تلك المعتقلات التي يخرجون منها أكثر تمرسا وقدرة على مقارعة جلادهم ، بمعطى جديد قديم أنه لم يعد هناك مايخشونه فقد خبروا الأسوأ قبل وأثناء وبعد الزنازن ، وهنا يجردون الاحتلال من أعتى أسلحته التي راهن عليها طويلا "التخويف " ، ويقطعون بالمقابل دابر أية سياسة أبتزاز أو مساومة " الترغيب ، وذلك سلاح مغربي ثاني من حيث الأهمية ، ومن انتزع من الاحتلال سلاحيه معا ، فسيغدو المغرب في محاولاته لكبح جماع النضال الصحراوي عشوائيا متخبطا مرتبكا في ردات فعله التي ستقوده من حيث لا يشعر الى متاهات تجره من أزمات الى أخرى وهو ما بدأ يتجلى في ملامح شاخصة حاليا .
عبر أجهزة هواتفهم المراقبة سلفا ، وحواسيبهم المرصودة قطعا وبكاميراتهم المعروفة طبعا ، وأقلام المرافعين حقوقيا ، وسيل من الورشات والهياكل والهيئات المؤطرة ، الكل مجاهرا غير ابه بما قد يتهدد سلامته ، يعلنون أن الخامس عشر من كل شهر يوما للقاء ، بل للتجمهر والتظاهر والتعبير الحر واعلاء كلمة الحق ، فيسعون لإعلام الاحتلال سعيا ، حتى يتحقق المشهد الذي لا تكتمل صورته بدون أبعادها القمعية المغربية ، التي تجر على الرباط ضغطا متزايدا وتتيح للصحراويين موقعا متقدما يصير منطلقا للفعل المقبل ، على عكس ما كان يتوجسه أبناء شعبنا عندما ظلوا حريضين على تنسيق عملياتهم البطولية في صمت مطبق وسرية تامة تكاد لا تكشف أدق التفاصيل إلا عندما يقترب موعد انطلاق الحدث ، فاليوم تأكد للجميع أن منع التظاهر قد يعطى نتائج أكثر نجاعة من التظاهر نفسه ، تماما كمنع سلطات الاحتلال للوفود والبعثات والدولية الراغبة في زيارة المنطقة المحتلة .
وأيا كانت مناسبة أو موعد التظاهر في أراضينا المحتلة ومناطق جنوب المغرب فإن الانتفاضة الصحراوية دخلت مرحلة جديدة متقدمة وجلية المعالم ، بعد ان كان رفع علم للجمهورية الصحراوية في تلك البقعة ضربا من المحال ، بل إن التقاط بث الاذاعة الوطنية أو تشغيل شريط للأغاني النضالية في إحدى السيارات أو التواصل مع أهل المخيمات وزر يرتقي الى جرم لا يغتفر ، فما بالك بتنظيم لقاءات تواصلية واحتفالات ونشاطات وزيارات للمخيمات نفسها وللأراضي المحررة أيضا ، أو مجرد الإفصاح عن رأي أصبح بموجبه روس وزملائه الأمميين وأخرين كثر يتقاطرون على منطقة إكتنفها النسيان ولفها الحصار الاعلامي والعسكري سنين طوال ، وجماهيرها مستعدة لتقديم أمثلة حية وشاهدة على الحالة المزرية التي يعيشون ، فاليوم التظاهر قبل مجلس الأمن الدولي وبالأمس اخر لكشف مصير المختفين والمختطفين وقبله فعل مشابه للتضامن مع سعيد دمبر وشهداء الانتفاضة ، وللمطالبة بالافراج عن المعتقلين السياسيين الصحراويين ، وقبل هذا وذاك مطالب اجتماعية واقتصادية جمة ترتسم كلها بلون السياسة وهي نتاجها أيضا وهو ما جسده مخيم النازحين بأكديم ازيد ، في خطوة نوعية شكلت النقلة الفعلية للحراك الشعبي الذي يتخذ قوته من صدق أهدافه ويتسم رقيه بسلمية أساليبه فكم عمد الاحتلال المغربي دون جدوى لجر الصحراويين الى معترك دموي يحاول تشويههم من خلاله داخليا وحارجيا كأرهابيين ومجرمين وما شابه ويكون عندئذ قد رمىى نبل مقاصد مقاومتهم وحاصرها في دائرة ضيقة يسهل إنقضاضه عليها على الرغممن استفزازه للصحراويين وانتهاكه لحروماتهم وعبثه بأعراضهم ، وقد يرى البعض أن السلمية في هكذا مواضع في حكم المبالغ فيه وأنه حان الأوان لضرب الاحتلال في مقتل والحث على تهديد استقراره وامنه في المنطقة ، وبعث رسالة اضافية لجيوش المستوطنين المراهنة على الهدوء لضمان استثماراتها وامتيازاتها المتاحة في صك على بياض من قبل المخزن ومغادرتهم أرض الوطن المحتل ضرورة حتمية كلما شعروا أنهم وممتلكاتهم في خطر ، والخياران مشروعان لموضوعيتهما إلا أن الأول أثبت نجاعته وإن على مضدد ومساوئ الثاني الراهنة قد تبعده كسبيل في الأفق ، فتأجيله مرحليا ليس إلغائه بالمطلق ، وهكذا هي حال السياسة .
الانتفاضة كمعطى وقضية تحتاج دراسة عميقة الغوص فيها متشعب ومركب على بساطة فعلها ، لكن ما يمكن الخروج به نافلة للقول أن رهان الصحراويين لى مواصلة ما شرعوه من معركة تحرر ما قووا ومكنوا بقائهم وتشبثهم في التواجد على الأرض ، وإن كان ضعفهم في الأعداد كأرقام ، لكن نوعية الطاقات البشرية ونوعية العمل ونوعية الأساليب عوامل من بين اخرى كفيلة بإيصال المنتفضين الى مصاف مكاسب لا يمكن إدراك نتائجها إلا بإستجماع رصيد تراكمي زاخر ، فغلة حصادها تقودنا الى الوقائع الصعبة التي صاحبت بدايات المقاومة السلمية ثمانينات القرن الماضي وتجعلنا امام حقائق قوية محصلتها الجهر بأسلوب الإنتفاضة ودروبها مثلما هو الشأن في وقفات الخامس عشر من الشهر الجاري ولتتجسد الدبلوماسية الحقوقية في شخص امنتو حيدار كمثال في الولايات المتحدة الأمريكية مكان إنعقاد دورة مجلس الامن الدولي بالذات ، فالجماهير دعت الى إحترام حقوق الإنسان بالصحراء الغربية في حملة إنطلقت من موقع فعلها ووصلت بقاع الأرض أصداءا وتفاعلات ومواقف .
نفعي أحمد محمد