تحت عنوان " رحلة عبر الأقدار " نشر الموقع الالكتروني لقسم الصحافة والاتصال بجامعة " سانت بطرسبورغ " الروسية هذا الأسبوع مقالاً مطولاً للصحافية الروسية " ناتاليا كونزالايفا" تضمن انطباعتها حول زيارتها لمخيمات اللاجئين الصحراوية والطبيعة القاسية التي يعيشونها ، ولقاءاتها مع بعض المواطنين والذين كان من بينهم سالم الداف الملقب " أبا عالي " ليروي لها مأساة النزوح الجماعي للصحراويين بعد الغزو المغربي لأرضهم والتي كان شاهد عيان عليها ، لتعرج الصحفية الروسية على إزدواجية المعايير التي يتبعها المجتمع الدولي في حل النزاعات.
الدكتور غالي الزبير طالع المقال وترجم - بتصرف يسير- فقرات منه فيما يلي:
تبدل المشهد
من مدينة "سانت بطرسبورغ" الماطرة ومن خلال الطيران عبرها أوروبا كلها وجدت نفسي في الصحراء، في أقصى جنوب غرب الجزائر حيث مخيمات اللاجئين الصحراويين بين الرمال الصفراء والسماء الزرقاء وفي درجة حرارة تقارب الخمسين درجة.
عدد قليل من الصحافيين الروس تمكنوا من زيارة هذا الركن القصي من أفريقيا حيث توجد مخيمات اللاجئين الصحراويين.
مخيمات اللاجئين الصحراويين
الصحراويون هم شعب مكون من العرب والبربر في أصولهم وهم شعب بدوي الروح ونمط المعيشة، ينفرد الصحراويون بهويتهم المتميزة، فلديهم تقاليدهم الخاصة بهم ولديهم لغتكم المتفردة وهي الحسانية التي تعتبر أحدى اللهجات العربية.
في ظروف طبيعية بالغة القسوة، حيث لا تنمو حتى النباتات الشوكية التي تتغذى عليها الجمال وتحت أشعة الشمس الحارقة، تمكن الصحراويون من خلق كل الظروف من أجل الوجود، حيث يعيشون في مباني من طابق واحد أقيمت من الرمل والطين، يرفق كل بيت بخيمة يمكن النوم بداخلها خلال فصل الربيع والصيف والخريف، فدرجة حرارة الهواء في منطقة "تيندوف" ترتفع إلى 60-70 درجة مئوية ، مما يجعل الهواء في المباني ذات الأسقف المعدنية أنسب للتعذيب منه للحياة.
وعلى الرغم من كل ذلك فمع الزمن تمكن الصحراويون من تغيير المشهد حيث توجد الكهرباء في بعض المخيمات والانترنيت في بعض المدارس كما أقيمت في "الرابوني" محطة تلفزيونية وأخرى للإذاعة.
سكان المخيمات يعيشون على أمل أن يتحقق – أخيراً- حل للنزاع الممتد لما يقارب الأربعين سنة مع المغرب، حيث تطالب المملكة بضم كل الصحراء الغربية وتستحوذ فعليا منذ أكثر من عشرين سنة على ما يقارب السبعين بالمائة من أراضي الصحراء الغربية.
رحلة عبر الأقدار:
وهكذا وجدت نفسي وسط هذا الصراع... ولكن من بين محدثي الذين قابلتهم في المخيمات والذين حدثوني عن أقاربهم المفقودين والأسر التي تعيش تحت نير الإحتلال المغربي وعن أمالهم في العودة إلى وطنهم، ربما كانت القصة الأكثر غرابة ومأساوية هي قصة "سالم الداف" المعروف باسم "أبا عالي".
بدأ كل شيء في أوائل عام 2013، حين عثر راعي صحراوي على مقبرة جماعية في قلب الصحراء، ليتبين لاحقا عند محاولة إعادة دفن الرفات - بعد أن كشفت عنها العوامل الطبيعية - أن المقبرة تتعلق بصحراويين ظلوا منذ سنوات عديدة مسجلين على قائمة المفقودين وضحايا الاختفاء القسري، وهو ما أثبتته وثائقهم الإسبانية التي عثر عليها في المقبرة ذاتها.
تحقيق العلماء الاسبان المتخصصين بين أن الراعي قد عثر على رفات ثمانية أشخاص، ستة بالغين وطفلين قاصرين، أظهرت دراسات الطب الشرعي أنهم قد قضوا بصورة عنيفة من خلال طلقات الأسلحة النارية الموجه لهم على مستوى الرأس.
وهكذا تكشفت بعد أربعين سنة من نضالات الشعب الصحراوي من أجل الاستقلال الجرائم الدموية التي ارتكبتها السلطات المغربية ، لقد أصبحت واضحة للعيان بعد سنوات سياسة المغرب الرامي إلى استئصال وإبادة السكان الصحراويين الذين رفضوا مبايعة الملك.
الشاهد على هذه الأحداث الرهيبة كان محاورنا "أبا عالي".
قصة سالم الداف الملقب "أبا عالي"
"كان عمري حينها 17 سنة (الصحيح 13 سنة- المترجم) في ذلك الوقت، كان قرب قريتنا بئر واحدة فقط، وكنا نجلب الماء بصورة دورية، لأن عائلتي كانت تعيش على تربية المواشي، علمنا أن المغرب قد غزا المناطق الشمالية من الصحراء الغربية، كانت عامة الناس البسطاء تشعر بالخوف، لذلك كنا نذهب إلى البئر جماعات.
كنت في ذلك اليوم مع والدي وصديقه ، كنا قد قررنا الهروب من الصحراء الغربية، والكثير من أصدقائنا قد فعل، وكانت وسيلة النقل الوحيدة هي الجمال فقط، كنا في ذلك اليوم قد عزمنا على التزود بالماء والمرور في طريقنا على بلدة أمغالا لشراء بعض المواد الغذائية ولكن في ذلك اليوم 12 فبراير 1976 حوصرنا من قبل القوات المغربية ، وكانوا قد اعتقلوا العديد من البدو الذين كانوا يمارسون الرعي ولم يكونوا مقاتلين ولم تكن بحوزتهم أسلحة إطلاقا.
والدي وصديقه تقدما للوصول إلى الماء بشكل أسرع، وأنا تخلفت وراءهم أسوق الجمال، وكان اتفاقنا أن نلتقي عند البئر.
سمعت هدير محرك لكنني لم أر أحداً، واصلت طريقي وقد أصبت بالخوف وما إن اقتربت من البئر حتى بدأت فجأة مجموعة من الأشخاص بالصراخ الحاد علي، كانوا جنودا مغاربة مختفين بين شجيرات الطلح قرب البئر، لم أفهم ما الذي يحدث وما الذي علي فعله وأصبت برعب شديد.
بعد لحظات وجدت نفسي محاطا بعدد كبير من الجنود وقد أخذوا ينهالون علي ضربا ثم ألقوا بي في شاحنة عسكرية، لم أهتم للضرب قدر اهتمامي بمعرفة أين والدي.
في الشاحنة كان يجلس صحراويون بملابسهم التقليدية عرفت من بينهم صديق والدي "عبد الله محمد" وعلى الفور سألته عن أبي، لكنه لم يقل لي شيئاً، ذكر فقط أنه رآه مؤخرا، وأضاف محذراً أن علي أن أصمت، ثم نصحني أن أقول أنني لا أعرف أحداً هنا وأنني وجدت هنا بمحض الصدفة حين يستجوبني الجنود المغاربة.
على الساعة الرابعة مساء توقفت السيارات وأدركت حينها أننا وصلنا إلى الجحيم، وفجأة وأمام عيني بدأ المغاربة في إطلاق النار على بعض المدنيين الصحراويين.
في المساء، جاء رجل أعتقد أنه كان قائدهم لأنه كان مختلفاً عن الجنود المغاربة الآخرين في مظهره ، كان له وجه بشع ، طلب من الصحراويين إبراز وثائقهم فأخرجوا بطاقاتهم الإسبانية ، لكنه سأل بصوت عال: أين البوليساريو؟
الرجل الجالس قربي قال أنه بدوي بسيط ولا يعرف شيئا عن البوليساريو.
الجواب لم يرق للقائد المغربي وما هي إلا لحظات حتى كان ذلك البدوي البسيط ممدداً بيننا بعد أن وجه "القائد" رصاصة إلى قلبه.
نادى على الشخص الموالي وبدأ في تعذيبه، وما إن لمحني حتى قال: "تعال يا ولد" وسدد بندقيته إلى رأسي فرميت نفسي على قدميه هربا من فوهة البندقية ابتعد قليلا ووجه بندقيته نحوي ثانية ، فكررت محاولة النجاة بالجري نحوه وحين التفت كان الجنود يحيطون بنا فهرعت إلى أحد الجنود طلباً للنجاة، ولعله رق لحالي فقال لي: كان عليك أن تصرخ : " عاش الملك ، عاش الجيش المغربي" كررت ما قال لي بلا تردد ، عندها التفت "القائد" إلى مجموعة البدو الصحراويين مطلقا النار على رؤوسهم دون تمييز.
الجندي الذي أنقذني أخذ بيدي وألقى بي في شاحنة مجاورة " بعد أن قيدني ولف رأسي ببطانية كي لا أرى ما يحدث ، في الشاحنة كان هناك عدد من الصحراويين عرفتهم من أصواتهم ، كانت يداي مقيدتين ولكنني ظللت أعض البطانية وأحرك رأسي حتى أزحتها قليلاً، حينها كان الظلام دامساً بحيث لم أتمكن من رؤية الوجوه
على الأرض كان عدد من الصحراويين محاصرين بالجنود المغاربة، هل كان فيهم نساء أم كانوا رجالاً فقط، لم استطع التحديد، كنت أسمع صوت شيخ يقرأ القرآن ويدعو الله ، وكانت تتناهى إلى مسامعي أصوات صرخات وطلب استغاثة ، يتبعها دوي الطلقات ، طلقة ثم أخرى، ولكن بعد الطلقة السابعة عشرة ساد المكان صمت وسكون.
بعدها جاء الجندي الذي أنقذني وطلب مني مغادرة الشاحنة اعتقدت أنه حان وقت قتلي أخفيت وجهي بين ذراعي لكنه قال لي : " أنا من أنقذك في المرة السابقة ، أنا صديقك وأريد مساعدتك " أخذني معه إلى نقطة الحراسة.
حين أنتهت نوبة الحراسة وهم صاحبي بالمغادرة لم أجد من خيار سوى البكاء واللحاق به ، فقال لصاحبه : " هذا طفل صغير وليس بخطر ، دعه يذهب معي". أخذني معه ووضعني في الشاحنة بعد أن قيدني كما فعل في المرة السابقة.
حين ظهر ضوء النهار رأيت مقبرة جديدة في مكان إطلاق النار يوم أمس.
بدأت القوة المغربية تستعد للتحرك نحو مدينة "القلتة" كما سيتضح لاحقا ، أحد الجنود جاء لتحيةأصدقائهم وصطدم بوجودي معهم.
- هذا شاهد! لماذا لا يزال حياً؟ قال ذلك محتجاً.
- هذا الطفل ليس خطيراً ، وقد أنقذ نفسه حين حي الملك ، قال صديقي العسكري.
- بالأمس كنا قد قتلنا أما وطفلها بعد نزعه من ثديها ذاك رضيع وهذا كبير ، لابد أن يحدث أحد ما بكل ما شاهد ، هذا خطير جداً.
هرعت بتهور إلى هذا الرجل ورميت نفسي تحت قدميه وأنا أصرخ "عاش الملك". ثم أردفت : أنا لست من هذا المكان ، أقاربي يعيشون في مدينة "السمارة"، أنا جئت فقط لجلب الماء ، عندها رحمني الرجل وتركني لحالي.
تحركت القافلة العسكرية متوجهة إلى مدينة "القلتة" ولكن بعد عشر كيلومترات اصطدمت بمجوعة من السكان وقبضت عليهم ، سألني صديقي الجندي إن كنت أعرف أحدا منهم ، أجبت بالنفي رغم أن والدي كان من بينهم ، كانت تلك لحظة من أصعب لحظات حياتي وكثيرا ما تذكرتها متسائلاً : ألم يكن من الأفضل لي أن أموت معهم؟
واصلنا المسير غير أن القوة المغربية وقعت تحت نيران مفاجئة لمقاتلي البوليساريو ، وضعني صديقي الجندي تحت المقاعد لينقذ حياتي ، تبادل إطلاق النار أوقع القوة المغربية في فوضى عارمة فاندفعت الشاحنات والسيارات في مختلف الاتجاهات ، الشاحنة التي كنت فيها انغرست في الرمال ، فهرب الجنود المغاربة منها ولم يبق سواي وصديقي والسائق ، بذل السائق وسعه لاستخراجها من الرمال دون نجاح ، عندها قال لنا : أنجوا بأنفسكم.
أخذ صاحبي بيدي وبدأنا نجري خلف الشاحنات المغربية التي هربت لا تلو على شيء ، بدأ صاحبي ينادي على أصدقائه ويلوح لهم بيديه ، أفلت يدي من قبضته وبدأ يجري محاولا اللحاق بأصدقائه أو لفت انتباههم إليه ، حين تقدمت بحوالي عشرة أمتار وتأكدت من أنه لا يلتفت إلي قفلت هارباً في الاتجاه المعاكس.
سرت أربعة أيام حافي القدمين عبر الصحراء وأخيرا عثرت على مجموعة من البدو ، سألوني عن الإعدامات فقلت لهم أنني شاهدت مقتل اثنين من معارفي وسمعت أصوات طلقات الرصاص واستغاثات صحراويين ولكنني لا أعرف من قتل هناك بالتحديد.
بين المفقودين في تلك الأحداث كان أبي وأخي وابن عمي وكذلك عمتي التي تركناها عندما ذهبنا لجلب الماء من البئر اختفت كذلك ، وحتى الساعة لازلنا نجهل مصيرها، في تلك الأيام عائلات بكامل أفرادها اختفت إلى الأبد، وعدد من معارفنا كانوا من بين أولئك الذين اختفوا منذ ذلك التاريخ. حتى الآن لا يعرف أحد بالضبط عدد ضحايا تلك الحملات التي شنت على المدنيين الصحراويين، وأعتقد أن الجانب الآخر من الجدار المغربي يحتوي على مقابر جماعية مماثلة لتلك التي عثر عليها أخيراً.
والدي وصديقه كانا من بين الناجين من تلك المذبحة ، وبعد استجوابات طويلة امتدت لما يزيد عن 3 أشهر تأكدت السلطات المغربية من أنهم بدو بسطاء فأطلقت سراحهم ، وعندما التقينا قررنا الهروب من المناطق المحتلة فذهبنا سيرا على الأقدام متظاهرين برعي الماشية، محاولين الذهاب إلى "تندوف"، في الطريق التقينا أشخاصا آخرين يسيرون في نفس الاتجاه ، بعضهم يسير وراء الجمال وبعضهم يسير خلف الغنم ، الجميع توحده فكرة الهروب بعد المشاهد الفظيعة التي عايشوها توجهنا معا شرقا ولكن في الطريق التقينا بصحراويين آخرين فقالوا لنا أن القوات المغربية توجد في طريقنا ونصحونا بالتوجه إلى الحدود الموريتانية ، والتي كانت على بعد 15 كيلومترا فقط ، والدي مع بعض الأصدقاء تحركوا ليلاً على أن نلحق بهم في صباح اليوم التالي ، ولكن ما إن تبلجت تباشير الصبح حتى وجدنا أنفسنا محاطين من جميع الجهات بالجنود المغاربة قاموا أولاً بقتل جميع المواشي، الجمال والأغنام، بعدها أمرونا بجمع كل ما لدينا من خيم وأثاث وطعام وملابس وأضرموا فيها النيران.
حملونا مكتوفي الأيدي ومعصوبي العيون في طائرة عسكرية إلى "مدينة السمارة" أين تعرضنا للتعذيب المتواصل والتهديد بالقتل إن لم نقدم لهم معلومات حول جبهة البوليساريو ، وهو ما لم نكن نعرف عنه شيئاً ، كان المكان مكتظاً بالمدنيين الصحراويين أطفال ونساء وشيوخ ، كانت بقربي عائلة صحراوية بأكملها، بينها أطفال صغار ومراهقون في مثل سني ، وكان من المستحيل أن تمشي إلى المرحاض دون أن تدوس على أحد لكثرة المعتقلين ، كان المرحاض في نفس الغرفة الكبيرة وكان المكان ضيقا والروائح الكريهة تملأ المحيط ، لم يكن من الممكن معرفة كم من البشر كان في ذلك المكان فقد كان الجميع مقيدين ومعصوبي العيون طيلة 25 يوماً ، فقدنا خلالها القدرة على التمييز بين الليل والنهار وأصبحنا نعيش خارج الزمن.
بعد ذلك سمح لنا بالخروج لرؤية الشمس في ساحة مجاورة لأول مرة ، كان عدد الذين بقوا معنا حينها حوالي عشرين شخصا بين النساء والشيوخ والأطفال من مختلف الأعمار كان بينهم صبية صغار كنا نشفق عليهم أكثر من أنفسنا ، لقد ارتكب المغاربة فظائع لا يمكن وصفها.
بعد ذلك توسط الشيوخ لإطلاق سراحنا فقبل المغاربة شرط أن نغادر الصحراء الغربية في ظرف 48 ساعة إلى داخل المغرب وبشرط أن لا يكون منا اثنان في مدينة مغربية واحدة ، في الليلة التالية عزمنا أحد الأصدقاء على العشاء في داره ولأن عادة الصحراويين أن يتناولوا العشاء في وقت متأخر من الليل ، فقد انتهزنا الفرصة لأنه سيمضي وقت طويل نسبياً دون أن يسأل عنا أحد ، تزودنا بالماء وخرجنا من المدينة فرادى بعد أن اتفقنا على مكان نلتقي فيه ، وبدأنا السير شمالاً لأنهم حين يفتقدوننا سيبحثون عنا شرقاً أو جنوبا وبعد مسير طويل غيرنا الاتجاه سرنا طوال الليل ولتجنب تتبعنا سرنا تلك الليلة ما يقارب خمسين كيلومترا.
حين لاح ضوء الصباح وجدنا أنفسنا في منطقة جبلية مما أفرحنا لأنها ستمكننا من الاختباء ريثما يحل الظلام لنواصل المسير فتحركنا نحوها ولم تمض إلا برهة حتى فاجأتنا مروحية مغربية تتجه نحونا فتطايرنا في جميع الاتجاهات طلباً للنجاة، حين تبدد صوت المروحية ، خرجت من مخبئي وبحثت طويلاً عن رفاقي دون جدوى ، فقررت مواصلة السير بمفردي غير أنني لم أنتبه وأنا أسير في وادي عميق وضيق بين الصخور إلا وأنا أواجه رجلين مسلحين يقفان في طريقي، أيقنت أن الهروب لم يعد ممكناً وكل ما تمنيته أن لا يطلقا علي النار من تلك المسافة القريبة.
بين الصخور كان الرجلان يتابعان حركة الجزء الاعلى من جسمي فقط وقد تهيأ أحدهم لإطلاق النار علي معتقداً من هيئتي ولون ملابسي أنني طائر كبير، وحين رميت قارورة الماء التي كنت أحملها معي تبين لهم أنني بشر فعدل الرجل عن اطلاق الرصاص كما سيحدثني لاحقاً.
حين أقتربت من الرجلين المسلحين وأنا مصاب بالخوف لاعتقادي أنهم جنود مغاربة لمحت على قبعة أحدهم علم الجبهة الشعبية " البوليساريو " لم يكن لفرحتي حينها حدود .. لقد نجوت أخيرا، وكان الرجل الذي كان يصوب نحوي سلاحه سعيداً لأنه لم يقتلني بطريقة الخطأ.
حين حدثتهم عن هروبي من " السمارة " لم يستطعا تصديق أنني قطعت كل تلك المسافة في ليلة واحدة ، كان شيئا أقرب إلى المستحيل.
قرروا البحث عن رفاقنا الذين فقدتهم في الصباح ، فواصلنا البحث رغم الإجهاد والإعياء الذي كان يعتريني ، واصلنا البحث حتى المساء ولكننا لم نعثر إلا على أثارهم ، فتيقنا أنهم إما أنهم قد أصبحوا بعيدين جدا عن ذلك المكان أو أنهم قد وقعوا للأسف في قبضة القوات المغربية التي كانت تمشط تلك المناطق بلا هوادة.
الثوار الصحراويون نقلوني إلى مخيمات اللاجئين حيث التقيت والدتي التي كانت قد سبقتني إلى هناك ، لكنها للأسف كانت قد فقدت قواها العقلية بتأثير ما حدث لنا الوالد تمكن بعد فترة من الهروب من قبضة الاحتلال والالتحاق بنا، لكنه هو الأخر مرض جراء المعاناة والضغوط التي عايشها وتوفي بعد فترة قصيرة ، أما الأم فقد عاشت مع أزماتها النفسية حتى توفيت".
ظل "أبا عالي" صامتاً محتفظاً بذكرياته المروعة لما يقارب أربعين سنة هي عمر النزاع الصحراوي ولكنه الآن قرر أن يشاطر الآخرين مشاهداته المبكرة بعد أن تكشفت حقائق وتفاصيل تلك الوقائع المخيفة التي كان شاهد عيان على فظاعتها.
قصة "أباعالي" تعتبر في الصحراء الغربية قصة عادية ، لأنك لن تعثر على أسرة صحراوية لم تفقد أحد أفرادها في هذه الحرب ، والحديث هنا ليس عن ميدان القتال فحسب، بل كما يحدثون، فإنه في منتصف السبعينيات حين وجد الصحراويون ملجأ في جنوب غرب الجزائر كانت الأمراض وسوء التغذية تفتك بمئات الأطفال حديثي الولادة الذين دفنوا كذلك في مقابر جماعية.
إزدواجية المعاييرلقد أعددت هذه الانطباعات حول سفري إلى الصحراء الغربية منذ فترة ، لكنني لم أنشرها من قبل فقد طغت أحداث " الميدان " في " كييف " والأزمة في أوكرانيا والاستفتاء في شبه جزيرة "القرم " على واجهة الأحداث، وهنا أتساءل: كيف تحل الصراعات الإقليمية في بعض المناطق خلال شهر في حين تبقى قضايا أخرى تراوح مكانها لمدة عشرين سنة وتظل قضايا أخرى بلا حل على الإطلاق.
مجلس الأمن الدولي يؤكد في كل مرة على حق الصحراويين في تقرير المصير، لكنه يعجز عن تنظيم الاستفتاء منذ 40 سنة ، أما في شبه جزيرة "القرم" فقد عبر الناس عن إرادتهم في استفتاء عام ، فاعتبرته الأمم المتحدة: "غير قانوني".
قضية الصحراء الغربية تمتلك كثيرا من أوجه الشبه مع قضايا كوسوفو ، تيمور الشرقية وجنوب السودان ، في كل هذه الصراعات حدث الحل بجهود المجتمع الدولي في حين بقيت آخر مستعمرة في إفريقيا طي النسيان! ، على الرغم من أن الحل واحد في كل مكان وهو حق الشعوب في اختيار مصيرها بحرية.
الدكتور غالي الزبير طالع المقال وترجم - بتصرف يسير- فقرات منه فيما يلي:
تبدل المشهد
من مدينة "سانت بطرسبورغ" الماطرة ومن خلال الطيران عبرها أوروبا كلها وجدت نفسي في الصحراء، في أقصى جنوب غرب الجزائر حيث مخيمات اللاجئين الصحراويين بين الرمال الصفراء والسماء الزرقاء وفي درجة حرارة تقارب الخمسين درجة.
عدد قليل من الصحافيين الروس تمكنوا من زيارة هذا الركن القصي من أفريقيا حيث توجد مخيمات اللاجئين الصحراويين.
مخيمات اللاجئين الصحراويين
الصحراويون هم شعب مكون من العرب والبربر في أصولهم وهم شعب بدوي الروح ونمط المعيشة، ينفرد الصحراويون بهويتهم المتميزة، فلديهم تقاليدهم الخاصة بهم ولديهم لغتكم المتفردة وهي الحسانية التي تعتبر أحدى اللهجات العربية.
في ظروف طبيعية بالغة القسوة، حيث لا تنمو حتى النباتات الشوكية التي تتغذى عليها الجمال وتحت أشعة الشمس الحارقة، تمكن الصحراويون من خلق كل الظروف من أجل الوجود، حيث يعيشون في مباني من طابق واحد أقيمت من الرمل والطين، يرفق كل بيت بخيمة يمكن النوم بداخلها خلال فصل الربيع والصيف والخريف، فدرجة حرارة الهواء في منطقة "تيندوف" ترتفع إلى 60-70 درجة مئوية ، مما يجعل الهواء في المباني ذات الأسقف المعدنية أنسب للتعذيب منه للحياة.
وعلى الرغم من كل ذلك فمع الزمن تمكن الصحراويون من تغيير المشهد حيث توجد الكهرباء في بعض المخيمات والانترنيت في بعض المدارس كما أقيمت في "الرابوني" محطة تلفزيونية وأخرى للإذاعة.
سكان المخيمات يعيشون على أمل أن يتحقق – أخيراً- حل للنزاع الممتد لما يقارب الأربعين سنة مع المغرب، حيث تطالب المملكة بضم كل الصحراء الغربية وتستحوذ فعليا منذ أكثر من عشرين سنة على ما يقارب السبعين بالمائة من أراضي الصحراء الغربية.
رحلة عبر الأقدار:
وهكذا وجدت نفسي وسط هذا الصراع... ولكن من بين محدثي الذين قابلتهم في المخيمات والذين حدثوني عن أقاربهم المفقودين والأسر التي تعيش تحت نير الإحتلال المغربي وعن أمالهم في العودة إلى وطنهم، ربما كانت القصة الأكثر غرابة ومأساوية هي قصة "سالم الداف" المعروف باسم "أبا عالي".
بدأ كل شيء في أوائل عام 2013، حين عثر راعي صحراوي على مقبرة جماعية في قلب الصحراء، ليتبين لاحقا عند محاولة إعادة دفن الرفات - بعد أن كشفت عنها العوامل الطبيعية - أن المقبرة تتعلق بصحراويين ظلوا منذ سنوات عديدة مسجلين على قائمة المفقودين وضحايا الاختفاء القسري، وهو ما أثبتته وثائقهم الإسبانية التي عثر عليها في المقبرة ذاتها.
تحقيق العلماء الاسبان المتخصصين بين أن الراعي قد عثر على رفات ثمانية أشخاص، ستة بالغين وطفلين قاصرين، أظهرت دراسات الطب الشرعي أنهم قد قضوا بصورة عنيفة من خلال طلقات الأسلحة النارية الموجه لهم على مستوى الرأس.
وهكذا تكشفت بعد أربعين سنة من نضالات الشعب الصحراوي من أجل الاستقلال الجرائم الدموية التي ارتكبتها السلطات المغربية ، لقد أصبحت واضحة للعيان بعد سنوات سياسة المغرب الرامي إلى استئصال وإبادة السكان الصحراويين الذين رفضوا مبايعة الملك.
الشاهد على هذه الأحداث الرهيبة كان محاورنا "أبا عالي".
قصة سالم الداف الملقب "أبا عالي"
"كان عمري حينها 17 سنة (الصحيح 13 سنة- المترجم) في ذلك الوقت، كان قرب قريتنا بئر واحدة فقط، وكنا نجلب الماء بصورة دورية، لأن عائلتي كانت تعيش على تربية المواشي، علمنا أن المغرب قد غزا المناطق الشمالية من الصحراء الغربية، كانت عامة الناس البسطاء تشعر بالخوف، لذلك كنا نذهب إلى البئر جماعات.
كنت في ذلك اليوم مع والدي وصديقه ، كنا قد قررنا الهروب من الصحراء الغربية، والكثير من أصدقائنا قد فعل، وكانت وسيلة النقل الوحيدة هي الجمال فقط، كنا في ذلك اليوم قد عزمنا على التزود بالماء والمرور في طريقنا على بلدة أمغالا لشراء بعض المواد الغذائية ولكن في ذلك اليوم 12 فبراير 1976 حوصرنا من قبل القوات المغربية ، وكانوا قد اعتقلوا العديد من البدو الذين كانوا يمارسون الرعي ولم يكونوا مقاتلين ولم تكن بحوزتهم أسلحة إطلاقا.
والدي وصديقه تقدما للوصول إلى الماء بشكل أسرع، وأنا تخلفت وراءهم أسوق الجمال، وكان اتفاقنا أن نلتقي عند البئر.
سمعت هدير محرك لكنني لم أر أحداً، واصلت طريقي وقد أصبت بالخوف وما إن اقتربت من البئر حتى بدأت فجأة مجموعة من الأشخاص بالصراخ الحاد علي، كانوا جنودا مغاربة مختفين بين شجيرات الطلح قرب البئر، لم أفهم ما الذي يحدث وما الذي علي فعله وأصبت برعب شديد.
بعد لحظات وجدت نفسي محاطا بعدد كبير من الجنود وقد أخذوا ينهالون علي ضربا ثم ألقوا بي في شاحنة عسكرية، لم أهتم للضرب قدر اهتمامي بمعرفة أين والدي.
في الشاحنة كان يجلس صحراويون بملابسهم التقليدية عرفت من بينهم صديق والدي "عبد الله محمد" وعلى الفور سألته عن أبي، لكنه لم يقل لي شيئاً، ذكر فقط أنه رآه مؤخرا، وأضاف محذراً أن علي أن أصمت، ثم نصحني أن أقول أنني لا أعرف أحداً هنا وأنني وجدت هنا بمحض الصدفة حين يستجوبني الجنود المغاربة.
على الساعة الرابعة مساء توقفت السيارات وأدركت حينها أننا وصلنا إلى الجحيم، وفجأة وأمام عيني بدأ المغاربة في إطلاق النار على بعض المدنيين الصحراويين.
في المساء، جاء رجل أعتقد أنه كان قائدهم لأنه كان مختلفاً عن الجنود المغاربة الآخرين في مظهره ، كان له وجه بشع ، طلب من الصحراويين إبراز وثائقهم فأخرجوا بطاقاتهم الإسبانية ، لكنه سأل بصوت عال: أين البوليساريو؟
الرجل الجالس قربي قال أنه بدوي بسيط ولا يعرف شيئا عن البوليساريو.
الجواب لم يرق للقائد المغربي وما هي إلا لحظات حتى كان ذلك البدوي البسيط ممدداً بيننا بعد أن وجه "القائد" رصاصة إلى قلبه.
نادى على الشخص الموالي وبدأ في تعذيبه، وما إن لمحني حتى قال: "تعال يا ولد" وسدد بندقيته إلى رأسي فرميت نفسي على قدميه هربا من فوهة البندقية ابتعد قليلا ووجه بندقيته نحوي ثانية ، فكررت محاولة النجاة بالجري نحوه وحين التفت كان الجنود يحيطون بنا فهرعت إلى أحد الجنود طلباً للنجاة، ولعله رق لحالي فقال لي: كان عليك أن تصرخ : " عاش الملك ، عاش الجيش المغربي" كررت ما قال لي بلا تردد ، عندها التفت "القائد" إلى مجموعة البدو الصحراويين مطلقا النار على رؤوسهم دون تمييز.
الجندي الذي أنقذني أخذ بيدي وألقى بي في شاحنة مجاورة " بعد أن قيدني ولف رأسي ببطانية كي لا أرى ما يحدث ، في الشاحنة كان هناك عدد من الصحراويين عرفتهم من أصواتهم ، كانت يداي مقيدتين ولكنني ظللت أعض البطانية وأحرك رأسي حتى أزحتها قليلاً، حينها كان الظلام دامساً بحيث لم أتمكن من رؤية الوجوه
على الأرض كان عدد من الصحراويين محاصرين بالجنود المغاربة، هل كان فيهم نساء أم كانوا رجالاً فقط، لم استطع التحديد، كنت أسمع صوت شيخ يقرأ القرآن ويدعو الله ، وكانت تتناهى إلى مسامعي أصوات صرخات وطلب استغاثة ، يتبعها دوي الطلقات ، طلقة ثم أخرى، ولكن بعد الطلقة السابعة عشرة ساد المكان صمت وسكون.
بعدها جاء الجندي الذي أنقذني وطلب مني مغادرة الشاحنة اعتقدت أنه حان وقت قتلي أخفيت وجهي بين ذراعي لكنه قال لي : " أنا من أنقذك في المرة السابقة ، أنا صديقك وأريد مساعدتك " أخذني معه إلى نقطة الحراسة.
حين أنتهت نوبة الحراسة وهم صاحبي بالمغادرة لم أجد من خيار سوى البكاء واللحاق به ، فقال لصاحبه : " هذا طفل صغير وليس بخطر ، دعه يذهب معي". أخذني معه ووضعني في الشاحنة بعد أن قيدني كما فعل في المرة السابقة.
حين ظهر ضوء النهار رأيت مقبرة جديدة في مكان إطلاق النار يوم أمس.
بدأت القوة المغربية تستعد للتحرك نحو مدينة "القلتة" كما سيتضح لاحقا ، أحد الجنود جاء لتحيةأصدقائهم وصطدم بوجودي معهم.
- هذا شاهد! لماذا لا يزال حياً؟ قال ذلك محتجاً.
- هذا الطفل ليس خطيراً ، وقد أنقذ نفسه حين حي الملك ، قال صديقي العسكري.
- بالأمس كنا قد قتلنا أما وطفلها بعد نزعه من ثديها ذاك رضيع وهذا كبير ، لابد أن يحدث أحد ما بكل ما شاهد ، هذا خطير جداً.
هرعت بتهور إلى هذا الرجل ورميت نفسي تحت قدميه وأنا أصرخ "عاش الملك". ثم أردفت : أنا لست من هذا المكان ، أقاربي يعيشون في مدينة "السمارة"، أنا جئت فقط لجلب الماء ، عندها رحمني الرجل وتركني لحالي.
تحركت القافلة العسكرية متوجهة إلى مدينة "القلتة" ولكن بعد عشر كيلومترات اصطدمت بمجوعة من السكان وقبضت عليهم ، سألني صديقي الجندي إن كنت أعرف أحدا منهم ، أجبت بالنفي رغم أن والدي كان من بينهم ، كانت تلك لحظة من أصعب لحظات حياتي وكثيرا ما تذكرتها متسائلاً : ألم يكن من الأفضل لي أن أموت معهم؟
واصلنا المسير غير أن القوة المغربية وقعت تحت نيران مفاجئة لمقاتلي البوليساريو ، وضعني صديقي الجندي تحت المقاعد لينقذ حياتي ، تبادل إطلاق النار أوقع القوة المغربية في فوضى عارمة فاندفعت الشاحنات والسيارات في مختلف الاتجاهات ، الشاحنة التي كنت فيها انغرست في الرمال ، فهرب الجنود المغاربة منها ولم يبق سواي وصديقي والسائق ، بذل السائق وسعه لاستخراجها من الرمال دون نجاح ، عندها قال لنا : أنجوا بأنفسكم.
أخذ صاحبي بيدي وبدأنا نجري خلف الشاحنات المغربية التي هربت لا تلو على شيء ، بدأ صاحبي ينادي على أصدقائه ويلوح لهم بيديه ، أفلت يدي من قبضته وبدأ يجري محاولا اللحاق بأصدقائه أو لفت انتباههم إليه ، حين تقدمت بحوالي عشرة أمتار وتأكدت من أنه لا يلتفت إلي قفلت هارباً في الاتجاه المعاكس.
سرت أربعة أيام حافي القدمين عبر الصحراء وأخيرا عثرت على مجموعة من البدو ، سألوني عن الإعدامات فقلت لهم أنني شاهدت مقتل اثنين من معارفي وسمعت أصوات طلقات الرصاص واستغاثات صحراويين ولكنني لا أعرف من قتل هناك بالتحديد.
بين المفقودين في تلك الأحداث كان أبي وأخي وابن عمي وكذلك عمتي التي تركناها عندما ذهبنا لجلب الماء من البئر اختفت كذلك ، وحتى الساعة لازلنا نجهل مصيرها، في تلك الأيام عائلات بكامل أفرادها اختفت إلى الأبد، وعدد من معارفنا كانوا من بين أولئك الذين اختفوا منذ ذلك التاريخ. حتى الآن لا يعرف أحد بالضبط عدد ضحايا تلك الحملات التي شنت على المدنيين الصحراويين، وأعتقد أن الجانب الآخر من الجدار المغربي يحتوي على مقابر جماعية مماثلة لتلك التي عثر عليها أخيراً.
والدي وصديقه كانا من بين الناجين من تلك المذبحة ، وبعد استجوابات طويلة امتدت لما يزيد عن 3 أشهر تأكدت السلطات المغربية من أنهم بدو بسطاء فأطلقت سراحهم ، وعندما التقينا قررنا الهروب من المناطق المحتلة فذهبنا سيرا على الأقدام متظاهرين برعي الماشية، محاولين الذهاب إلى "تندوف"، في الطريق التقينا أشخاصا آخرين يسيرون في نفس الاتجاه ، بعضهم يسير وراء الجمال وبعضهم يسير خلف الغنم ، الجميع توحده فكرة الهروب بعد المشاهد الفظيعة التي عايشوها توجهنا معا شرقا ولكن في الطريق التقينا بصحراويين آخرين فقالوا لنا أن القوات المغربية توجد في طريقنا ونصحونا بالتوجه إلى الحدود الموريتانية ، والتي كانت على بعد 15 كيلومترا فقط ، والدي مع بعض الأصدقاء تحركوا ليلاً على أن نلحق بهم في صباح اليوم التالي ، ولكن ما إن تبلجت تباشير الصبح حتى وجدنا أنفسنا محاطين من جميع الجهات بالجنود المغاربة قاموا أولاً بقتل جميع المواشي، الجمال والأغنام، بعدها أمرونا بجمع كل ما لدينا من خيم وأثاث وطعام وملابس وأضرموا فيها النيران.
حملونا مكتوفي الأيدي ومعصوبي العيون في طائرة عسكرية إلى "مدينة السمارة" أين تعرضنا للتعذيب المتواصل والتهديد بالقتل إن لم نقدم لهم معلومات حول جبهة البوليساريو ، وهو ما لم نكن نعرف عنه شيئاً ، كان المكان مكتظاً بالمدنيين الصحراويين أطفال ونساء وشيوخ ، كانت بقربي عائلة صحراوية بأكملها، بينها أطفال صغار ومراهقون في مثل سني ، وكان من المستحيل أن تمشي إلى المرحاض دون أن تدوس على أحد لكثرة المعتقلين ، كان المرحاض في نفس الغرفة الكبيرة وكان المكان ضيقا والروائح الكريهة تملأ المحيط ، لم يكن من الممكن معرفة كم من البشر كان في ذلك المكان فقد كان الجميع مقيدين ومعصوبي العيون طيلة 25 يوماً ، فقدنا خلالها القدرة على التمييز بين الليل والنهار وأصبحنا نعيش خارج الزمن.
بعد ذلك سمح لنا بالخروج لرؤية الشمس في ساحة مجاورة لأول مرة ، كان عدد الذين بقوا معنا حينها حوالي عشرين شخصا بين النساء والشيوخ والأطفال من مختلف الأعمار كان بينهم صبية صغار كنا نشفق عليهم أكثر من أنفسنا ، لقد ارتكب المغاربة فظائع لا يمكن وصفها.
بعد ذلك توسط الشيوخ لإطلاق سراحنا فقبل المغاربة شرط أن نغادر الصحراء الغربية في ظرف 48 ساعة إلى داخل المغرب وبشرط أن لا يكون منا اثنان في مدينة مغربية واحدة ، في الليلة التالية عزمنا أحد الأصدقاء على العشاء في داره ولأن عادة الصحراويين أن يتناولوا العشاء في وقت متأخر من الليل ، فقد انتهزنا الفرصة لأنه سيمضي وقت طويل نسبياً دون أن يسأل عنا أحد ، تزودنا بالماء وخرجنا من المدينة فرادى بعد أن اتفقنا على مكان نلتقي فيه ، وبدأنا السير شمالاً لأنهم حين يفتقدوننا سيبحثون عنا شرقاً أو جنوبا وبعد مسير طويل غيرنا الاتجاه سرنا طوال الليل ولتجنب تتبعنا سرنا تلك الليلة ما يقارب خمسين كيلومترا.
حين لاح ضوء الصباح وجدنا أنفسنا في منطقة جبلية مما أفرحنا لأنها ستمكننا من الاختباء ريثما يحل الظلام لنواصل المسير فتحركنا نحوها ولم تمض إلا برهة حتى فاجأتنا مروحية مغربية تتجه نحونا فتطايرنا في جميع الاتجاهات طلباً للنجاة، حين تبدد صوت المروحية ، خرجت من مخبئي وبحثت طويلاً عن رفاقي دون جدوى ، فقررت مواصلة السير بمفردي غير أنني لم أنتبه وأنا أسير في وادي عميق وضيق بين الصخور إلا وأنا أواجه رجلين مسلحين يقفان في طريقي، أيقنت أن الهروب لم يعد ممكناً وكل ما تمنيته أن لا يطلقا علي النار من تلك المسافة القريبة.
بين الصخور كان الرجلان يتابعان حركة الجزء الاعلى من جسمي فقط وقد تهيأ أحدهم لإطلاق النار علي معتقداً من هيئتي ولون ملابسي أنني طائر كبير، وحين رميت قارورة الماء التي كنت أحملها معي تبين لهم أنني بشر فعدل الرجل عن اطلاق الرصاص كما سيحدثني لاحقاً.
حين أقتربت من الرجلين المسلحين وأنا مصاب بالخوف لاعتقادي أنهم جنود مغاربة لمحت على قبعة أحدهم علم الجبهة الشعبية " البوليساريو " لم يكن لفرحتي حينها حدود .. لقد نجوت أخيرا، وكان الرجل الذي كان يصوب نحوي سلاحه سعيداً لأنه لم يقتلني بطريقة الخطأ.
حين حدثتهم عن هروبي من " السمارة " لم يستطعا تصديق أنني قطعت كل تلك المسافة في ليلة واحدة ، كان شيئا أقرب إلى المستحيل.
قرروا البحث عن رفاقنا الذين فقدتهم في الصباح ، فواصلنا البحث رغم الإجهاد والإعياء الذي كان يعتريني ، واصلنا البحث حتى المساء ولكننا لم نعثر إلا على أثارهم ، فتيقنا أنهم إما أنهم قد أصبحوا بعيدين جدا عن ذلك المكان أو أنهم قد وقعوا للأسف في قبضة القوات المغربية التي كانت تمشط تلك المناطق بلا هوادة.
الثوار الصحراويون نقلوني إلى مخيمات اللاجئين حيث التقيت والدتي التي كانت قد سبقتني إلى هناك ، لكنها للأسف كانت قد فقدت قواها العقلية بتأثير ما حدث لنا الوالد تمكن بعد فترة من الهروب من قبضة الاحتلال والالتحاق بنا، لكنه هو الأخر مرض جراء المعاناة والضغوط التي عايشها وتوفي بعد فترة قصيرة ، أما الأم فقد عاشت مع أزماتها النفسية حتى توفيت".
ظل "أبا عالي" صامتاً محتفظاً بذكرياته المروعة لما يقارب أربعين سنة هي عمر النزاع الصحراوي ولكنه الآن قرر أن يشاطر الآخرين مشاهداته المبكرة بعد أن تكشفت حقائق وتفاصيل تلك الوقائع المخيفة التي كان شاهد عيان على فظاعتها.
قصة "أباعالي" تعتبر في الصحراء الغربية قصة عادية ، لأنك لن تعثر على أسرة صحراوية لم تفقد أحد أفرادها في هذه الحرب ، والحديث هنا ليس عن ميدان القتال فحسب، بل كما يحدثون، فإنه في منتصف السبعينيات حين وجد الصحراويون ملجأ في جنوب غرب الجزائر كانت الأمراض وسوء التغذية تفتك بمئات الأطفال حديثي الولادة الذين دفنوا كذلك في مقابر جماعية.
إزدواجية المعاييرلقد أعددت هذه الانطباعات حول سفري إلى الصحراء الغربية منذ فترة ، لكنني لم أنشرها من قبل فقد طغت أحداث " الميدان " في " كييف " والأزمة في أوكرانيا والاستفتاء في شبه جزيرة "القرم " على واجهة الأحداث، وهنا أتساءل: كيف تحل الصراعات الإقليمية في بعض المناطق خلال شهر في حين تبقى قضايا أخرى تراوح مكانها لمدة عشرين سنة وتظل قضايا أخرى بلا حل على الإطلاق.
مجلس الأمن الدولي يؤكد في كل مرة على حق الصحراويين في تقرير المصير، لكنه يعجز عن تنظيم الاستفتاء منذ 40 سنة ، أما في شبه جزيرة "القرم" فقد عبر الناس عن إرادتهم في استفتاء عام ، فاعتبرته الأمم المتحدة: "غير قانوني".
قضية الصحراء الغربية تمتلك كثيرا من أوجه الشبه مع قضايا كوسوفو ، تيمور الشرقية وجنوب السودان ، في كل هذه الصراعات حدث الحل بجهود المجتمع الدولي في حين بقيت آخر مستعمرة في إفريقيا طي النسيان! ، على الرغم من أن الحل واحد في كل مكان وهو حق الشعوب في اختيار مصيرها بحرية.