القائمة الرئيسية

الصفحات

الدعوة إلى الاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف

قضى الله عز وجل أن تختلف فهوم الناس وتتفاوت مداركهم؛ وذلك التفاوت أوجد اختلافاً بين قناعاتهم وآراءهم وتبع ذلك مواقفهم وقراراتهم.
وهذا الاختلاف لا يشكل خطورة إذا لم يتجاوز حده؛ لأنه أمر طبعي؛ وإنما الشيء الخطر هو أن يكون ذلك الاختلاف منشأ التفرق والتحزب ورمي كل فريق وطرف صاحبه بعظائم الأمور وشنائع الأوصاف.
وقد وجد الاختلاف في العصور المفضلة منذ عهد الصحابة رضوان الله؛ ولم يكن ذات يوم سبباً للتدابر والتهاجر؛ وإنما كان بمثابة تشحيذ الأذهان لاستخراج مكنونات النصوص وكنوز المعرفة في نصوص الشريعة المطهرة؛ ومما سجله الرواة في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي؛ لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
فهذا النوع من الاختلاف غيرُ مذمومٍ إذا وقع من أهله العارفين بأصوله، بل يمدحُ إن كان الحاملُ عليه اتباعَ الحق وتقديمه، ذلك أن نصوص القرآن والسنة في بيان تلك الأحكام ظنيةٌ في دلالتها، فربما رجح مجتهد مالم يرجحه آخر، فالكلُّ مأجور في اجتهاده، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » متفق عليه.
وقد كان خلاف الصحابة رضوان الله عليهم، والأئمة من علماء الأمة السالفين من هذا النوع، فلم يوجب فسقاً ولا بدعة، بل كان بعضهم يجلُّ بعضاً، ويكرمه من غير أن يكون خلافهم لتفرقهم، طالما أن الحقَّ بغيةُ كل واحدٍ منهم ومطلبه.
ولكن مما يجب التمسك به وعدم الخلاف حوله هو المحكمات التي هي أساس الشريعة ومقصد الرسالة؛ وهي المتصفة بالثبات والظهور البين الذي لا يحتاج إلى تأويل.
وتتمثل تلك المحكمات في الأحكام الداخلة في قواعد الدين وأصوله حال التشريع ووقت الرسالة، التي لا يتصور ورود النسخ عليها ولا تخصيصها، وهي واضحة الدلالة على معانيها، بحيث أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي أصول ترد إليها المتشابهات والجزئيات.
وهي كذلك كما وصفها القرآن: أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...)[آل عمران: 7].
قال الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله في تفسير الآية: «المحكمات: هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه».
وقال الإمام المفسر القرطبي رحمه الله: «فالمحكم أبدًا أصل ترد إليه الفروع».
ومن أمثلة المحكمات: المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة برعايتها، أو ما يعرف بالضروريات الخمس، وهي: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال).
وهذه الضروريات تمثل في الحقيقة قاعدة المحكمات، فالنصوص الدالة عليها محفوظة لا تقبل تغييرًا أو نسخًا، وواضحة لا تحتاج لتأويل، وهي أصول ترد إليها ما يشتبه على أفهام المكلفين.
ومن العواصم في التشرذم المقيت والخلاف المذموم رعاية هذه المحكمات والاجتماع عليها، لكون المحكمات هي المسلمات عند كل مؤمن؛ بخلاف غيرها من أمور الشريعة التي يسوغ فيها الخلاف وتتنوع فيها الاجتهادات.
فلا ينبغي التثريب على من ذهب إلى مذهب أو قول معتبر له دليله من الوحي سالكاً الطرق المعتبرة عند أهل العلم في الاستنباط في أن يتبع ما توصل إليه في استنباطه إلا بمثل تلك الطرق العلمية بشرط عدم الجور وحفظ حقوق الأخوة الإيمانية؛ مادامت المحكمات متفق عليها بين المختلفين.
ومما يجدر التنبيه إليه أن أكثر الشريعة تعد من المحكمات؛ بخلاف القائلين بخلاف ذلك؛ وقد قرر ذلك كثير من العلماء المحققين؛ حيث قال الإمام الشاطبي رحمه الله: التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك.
والثاني: أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه، وهذا باطل. وبيان ذلك: أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ويفسد بفساده ويتضح باتضاحه ويخفى بخفائه، وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع إذ كل فرع فيه ما في الأصل وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شئ من أمهات الكتاب.
 فإن قيل فقد وقع في الأصول أيضا فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم؟
 فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية؛ وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة وإنما في فروعها، فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي، كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط، فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة وهي الأكثر فإذا اعتبر هذا المعنى لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي، فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال، وليس هو المقصود ههنا ولا هو مقصود صريح اللفظ وإن كان مقصودا بالمعنى. [الموافقات (3/95-98)]

إذا أعجبك محتوى الوكالة نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الاخبار السريع ليصلك الجديد أولاً بأول ...