اليوم نسلط الضوء على المتواضع محمد عبد العزيز .. هذه الخربشة التي نشرت سابقا هي عن جوانب انسانية من حياة محمد عبد العزيز كإنسان وليس كسياسي، عن محمد كظاهرة وكمدرسة وقدوة في التواضع والبساطة والعفوية، خربشة عن محمد الإنسان العادي بعيدا عن نجاحات وإخفاقاته كزعيم وكرئيس .. ضمن سلسلة الكتابات الانسانية عن أناس عامة وعادية رحلوا عن دنيانا الفانية .. فرصة في هذا الشهر الفضيل للترحم عليهم .
المتواضع ..
يقول ألفرد دي موسيه .. " .. ليس للرجل سوى مجد واحد حقيقي، هو التواضع .. " .. وقد صدق ..
مع نهاية العشرية الأولى من الألفية الجديدة غادرت جدتي لأمي الزهرة منت أفوشال هذه الدنيا ومع بداية الثانية غادرها جدي يحظيه ولد الخليل، كانا شخصين عاديين من عامة الشعب، لم يكونا ثريين ولا معروفين لكنهما إمتلكا تاريخا طويلا من النضال والتضحية بالنفس والمال والعز والجاه في سبيل الوطن.
بعد وفاة كل واحد منهما حرص الرئيس محمد عبد العزيز على القدوم بنفسه لتعزية العائلة، وأتذكر كيف جاء يوم رحيل الإثنين مرفوقا بعدد من أعضاء الأمانة الوطنية والحكومة الى خيمتنا الكبيرة التي تتوسط دائرة بئر قندوز بولاية أوسرد، أتذكر كيف جلس يبكي بصدق وهو يعزي والدتي وإخوتها وأخواتها بعد أن قدم وبنفسه السلام على كل الأحفاد وكنت واحدا منهم، مشجعا الجيل على مواصلة طريق الأجداد المليء بالمجد والكرامة والعزة بالوطن والفخر بالتضحية من أجله.
كان محمد عبد العزيز حريصا على الحضور لتعزية كل العائلات الصحراوية تقريبا في فقدانها أحد أفرادها، كان يحضر بنفسه كلما كان متواجدا في مخيمات العزة والكرامة او المناطق المحررة وكان يبعث بمندوب او مندوبين عنه كلما كان خارج المخيمات او في مهام رسمية تمنع حضوره.
كان الرئيس يعرف أفراد الشعب الصحراوي واحدا واحدا، الصغير قبل الكبير، كان يضحك مع الجميع ويجالس الجميع ويحرص على معرفة أحوال الرعية فردا فردا، كان يعيش هموم شعبه من أعماق قلبه، كان يساعد الضعيف، يمسح دموع الحزين، يشارك الأفراح ويعزي في المصائب والمحن.
كانت خيمة الرجل المتواضعة وسط ولاية بوجدور محجا لعشرات المواطنين يوميا، كان الرئيس حريصا على تقديم الإبتسامة لضيوف خيمته مع سلام حار مليء بالعناق والمودة والحنان عرف به، كان يفعل ذلك مهما كان متعبا او مرهقا اومهموما بتعقيدات القضية التي يدير، يدخلهم الى خيمته ويحرص وبنفسه على إعداد الشاي وتقديم غسيل اليدين لكل الضيوف من أبناء شعبه ثم يلح عليهم بالعشاء والمبيت بعد أن يستمع وبكل تركيز الى مشاكلهم وهمومهم ومعاناتهم وحاجاتهم.
الرجل كان يفعل نفس الشيء مع ضيوف الشعب الصحراوي، كان الرئيس يأتي بهم الى خيمته، يجالسهم مع عائلته الصغيرة والجيران وكل من يأتي من أبناء الشعب، كانت أبواب خيمته الأربعة مشرعة للجميع، وبذلك كسب الرجل قلوب الضيوف الأجانب، أثار إنتباههم بتواضعه غير العادي وكانوا عندما يغادرون وسواء كانوا رؤساء او رؤساء أحزاب او جمعيات او مواطنين عاديين يعززون قيم التضامن والتعاطف مع قضية الشعب الصحراوي وكفاحه العادل لأنهم كانوا وببساطة يرون كل الشعب الصحراوي وتفاصيل قضيته العادلة فقط من خلال وجه وملامح ومعاملة وكرم وصدق وبساطة هذا الرئيس دون الحاجة الى البحث طويلا في النزاع حول الصحراء الغربية.
كان الرجل يعود كل مساء من عمله أحيانا في سيارته وأحيانا كان يأتي في أي سيارة أخرى، كميون او أنروفير او تويوطا او نيسان لا يهم "ألي أجبر يطلعوا" وسواء كان نصيبه الجلوس في مقدمة السيارة او في مؤخرتها، وشخصيا كنت واحدا من الذين صادفوا الرئيس على قارعة الطريق ليلا فأوصلته بنفسي الى خيمته وأتذكر كيف كان يدعوا لي بطول العمر وكأن الرجل مواطنا عاديا لأنه وفعلا كان واحدا من الناس.
سافر محمد عبد العزيز في الطائرات العسكرية وفي مقاعد الدرجة الثانية في رحلات الطيران المدني العادية، شارك الرجل في حملات النظافة و"حاش الكبة بأيديه" و"أغسل لمعاين" بنفسه و"أخبط أبريك وطلعوا"، كان يطهو مع المقاتلين في الطرقات الطويلة أثناء سفرياتهم كمجاهدين وقت الحرب او بعد ذلك في سفره للتفتيش على نواحي جيش التحرير كقائد أعلى للقوات المسلحة، كان "يوكل أمعاهم" من "السطلة" و"المرجن" و"ساگ" أي قادة السيارات حتى وهو مريض "أمعلگ أسويرو" او المحلول الصحي كما يسمى طبيا.
كان الرئيس الشهيد إنسان حنون وطيب، بكى وبحرقة على فقدان رفاق دربه من مقاتلي جيش التحرير الشعبي الصحراوي ومن السياسيين وعاش حتى وافاه الأجل المحتوم كأب لأبناءهم وكفيل لأراملهم من بعدهم.
كان الراحل ذكيا جدا، فالرجل الرئيس كان يستعمل سلاحه في التواضع ليهزم خصومه السياسيين ببساطة، فيكفي أن يتقدم أي إنسان مهما بلغت حدة ذكاءه أو ثقافته أو شعبيته ونزاهته وتاريخه أو تخول له نفسه مقارعة محمد في ميادين السياسة والإنتخاب ليسقط أرضا بإرادة شعبية، لماذا ؟ لأن محمد كان وبسهولة قد حصد كل الأصوات وكسب كل العواطف وبلا منازع، لا أحد بإستطاعته إزاحته عن عرشه كملك للقلوب.
عندما توفي ملك المغرب الراحل الحسن الثاني أبرق محمد عبد العزيز معزيا ملك المغرب الجديد محمد السادس فكسب الرجل قلوب الأوساط الشعبية وحتى السياسية بالمغرب والعالم أجمع.
طيبة الرجل سيشهد بها حتى أسرى الحرب المغاربة، فالرئيس وحسب شهاداتهم أنفسهم والموثقة صوتا وصورة كان أحيانا يجلس بنفسه بينهم ويحدثهم عن أحوالهم ويتناول وجباتهم ويشرب الشاي برفقتهم. عندما غادروا مخيمات العزة والكرامة الى بلدهم وعائلاتهم حرص الرئيس على توديعهم بنفسه طالبا منهم أن يبلغوا سلامه شخصيا الى عائلاتهم وشعبهم، لذلك حتى هؤلاء الخصوم بكو وبحرقة على غياب محمد الأبدي.
محمد كان ظاهرة بكل معنى الكلمة ليس كرجل سياسة وزعيم أمة لأربعين عاما بل كان ظاهرة كإنسان قدر له أن يسكن القلوب، كل القلوب، وحتى قلوب الأعداء.
يقول روبندرونات طاغور " .. تقترب من العظمة بقدر ما تقترب من التواضع .. " ..
وأنا مؤمن وبشدة بأن محمد عبد العزيز بات واحدا من العظماء الذين سيذكرهم التاريخ طويلا ليس فقط كزعيم وكقائد بل وأكثر من ذلك كإنسان عاش ورحل بسيطا لم ينظر يوما الى الأعلى متكبرا.
وختاما، ملأى السنابل تنحني بتواضع، والفارغات رؤوسهن شوامخ.
فاللهم في هذا الشهر الفضيل الرحمة لمتواضع بين يديك، تغمده يا رب بواسع رحمتك وعظيم مغفرتك ولطف عفوك ..
عبداتي الرشيد